والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : إنا متوكلون، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال : وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وعن ابن زيد : أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت. وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي : وهذا بعيد لأن قوله :﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ راجع إلى قوله :﴿وَتَزَوَّدُوا ﴾ فكان تقديره : وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات قال : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان أحدهما : أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية والثاني : أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد : وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤
أما قوله تعالى :﴿وَاتَّقُونِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : إن قوله :﴿وَاتَّقُونِ﴾ فيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله وهو كقول الشاعر :
أنا أبو النجم وشعري شعري
المسألة الثانية : أثبت أبو عمرو الياء في قوله :﴿وَاتَّقُونِ﴾ على الأصل، وحذفها الآخرون للتخفيف ودلالة الكسر عليه.
أما قوله تعالى :﴿وَاتَّقُونِ يَـا أُوْلِي الالْبَـابِ﴾ فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه، ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال بعضهم : إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين، وقال آخرون : أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق : ٣٧) فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل، فقوله :﴿وَاتَّقُونِ يَـا أُوْلِي الالْبَـابِ﴾ معناه : يا أولي العقول، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية : فلان له نفس، ولمن ليس له حمية : فلان لا نفس له فكذا ههنا.
فإن قيل : إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله :﴿وَاتَّقُونِ يَـا أُوْلِي الالْبَـابِ﴾.
قلنا : معناه : إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح، ولهذا قال الشاعر :
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ (الأعراف : ١٧٩) يعني الأنعام معذورة بسبب العجز، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانوا أضل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤
٣٢٢
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف والتقدير : ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فضلاً والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أن الشبهة كان حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه :
أحدها : أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها، فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج وثانيها : أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية، فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى، فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية وثالثها : أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج، كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سبباً لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سبباً لحرمة التجارة مه قلة الحاجة إليها كان أولى ورابعها : عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلاً عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج، فلهذا السبب بين الله تعالى / ههنا أن التجارة جائزة غير محرمة، فإذا عرفت هذا فنقول : المفسرون ذكروا في تفسير قوله :﴿أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ وجهين الأول : أن المراد هو التجارة، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ﴾ (المزمل : ٢٠) وقوله :﴿جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِه ﴾ ثم الذي يدل على صحة هذا التفسير وجهان الأول : ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرآ :﴿أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ والثاني : الروايات المذكورة في سبب النزول.


الصفحة التالية
Icon