فالرواية الأولى : قال ابن عباس : كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية، وكانوا يسمون التاجر في الحج : الداج ويقولون : هؤلاء الداج، وليسوا بالحاج، ومعنى الداج : المكتسب الملتقط، وهو مشتق من الدجاجة، وبالغوا في الإحتراز عن الأعمال، إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف، وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبين أنه لا جناح في التجارة، ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج، وما بعدها أيضاً في الحج، وهو قوله :﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ﴾ دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج، فلهذا السبب استغنى عن ذكره.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٢
والرواية الثانية : ما روي عن ابن عمر أن رجلاً قال له إنا قوم نكري وإن قوماً يزعمون أنه لا حج لنا، فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله :﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ فدعاه وقال : أنتم حجاج وبالجملة فهذه الآية نزلت رداً على من يقول : لا حج للتجار والأجراء والجمالين.
والرواية الثالثة : أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا بتجرون في أيام الموسم فيها، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجرون في الحج بغير إذن، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية.
والرواية الرابعة : قال مجاهد : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولامنى، فنزلت هذه الآية.
إذا ثبت صحة هذا القول فنقول : أكثر الذاهبين إلى هذا القول حملوا الآية على التجارة في أيام الحج، وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج، قال والتقدير : فاتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ (الجمعة : ١٠).
واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها : الفاء في قوله :﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ﴾ يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل، وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج / وثانيها : أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لاعلى موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج، فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة.
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه : أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها، وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض، ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجاً لا يقال : بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات، بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية، لأنا نقول : هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطاً.
القول الثالث : أن المراد بقوله تعالى :﴿أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجاً أعمالاً أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام، واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب، ولا يقال في مثله : لا جناح عليكم فيه، وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٢
والجواب : لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى :﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ﴾ (النساء : ١٠١) والقصر بالإتفاق من المندوبات، وأيضاً فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللاً في الحج ونقصاً فيه، فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله :﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ (الممتحنة).
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصاناً في الطاعة لم تكن مباحة، أما إن لم توقع نقصاناً ألبتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها، لقوله تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البنيه : ٥) والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة، وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى :"أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه" والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص.
قوله تعالى :﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ فيه مسائل :