المسألة الأولى : الإفاضة الإندفاع في السير بكثرة، ومنه يقال : أفاض البعير بجرته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أفاض الأقداح في الميسر، معناه جمعها ثم ألقاها متفرقة، وإفاضة الماء من هذا لأنه إذا صب تفرق والإفاضة في الحديث إنما هي الإندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه، وعليه قوله تعالى :﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيه ﴾ (يونس : ٦١) ومنه يقال للناس : فوض، وأيضاً جمعهم فوضى ويقال : أفاضت العين دمعها فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء حتى يتفرق. فقوله تعالى :﴿أَفَضْتُم﴾ أي دفعتم بكثرة/ وأصله أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم : دفعوا من موضع كذا وصبوا، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه : ونزل في وادي قيروان وهو يخدش بعيره بمحجنه.
المسألة الثانية :﴿عَرَفَـاتٍ﴾ جمع عرفة، سميت بها بقعة واحدة، كقولهم : ثوب أخلاق، وبرمة أعشار، وأرض سباسب، والتقدير : كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمى مجموع تلك القطع بعرفات، فإن قيل : هلا منعت من الصرف وفيها السببان : التعريف والتأنيث قلنا : هذه اللفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض كل واحدة منه مسماة بعرفة، وعلى هذا التقدير لم يكن علماً ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٢
المسألة الثالثة : اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات، وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوهاً أما يوم التروية ففيه قولان أحدهما : من روي يروي تروية، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته والثاني : من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش أما الأول : ففيه ثلاثة أقوال أحدها : أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت، فلما بناه تفكر فقال : رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل ؟
قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك، قال : يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به، قال : زدني قال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك، قال : حسبي يا رب حسبي وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكراً هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان ؟
فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك وثالثها : أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات.
أما القول الثاني : وهو اشتقاقه من تروية الماء، ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم والثاني : أنهم يتزودون الماء إلى عرفة والثالث : أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا، وأما فضل هذا اليوم فدل عليه قوله تعالى :﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ (الشفع : ٣) عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة، والوتر يوم النحر، وعن عبادة أنه عليه الصلاة والسلام قال :"صيام عشر الأضحى كل يوم منها كالشهر، ولمن يصوم يوم التروية سنة، ولمن يصوم يوم عرفة سنتان" وروى أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال :"من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مريم عليه السلام".
وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء، خمسة منها مختصة به، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره، أما الخمسة الأولى فأحدها : عرفة، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مشتق من المعرفة، وفيه ثمانية أقوالالأول : قول ابن عباس : إن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمى / اليوم عرفة، والموضع عرفات، وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب، وحواء بجدة، وإبليس بنيسان، والحية بأصفهان، فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا وثانيها : أن آدم علمه جبريل مناسك الحج، فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت ؟
قال نعم، فسمى عرفات وثالثها : قول علي وابن عباس وعطاء والسدي : سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة ورابعها : أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك، وأوصله إلى عرفات، وقال له : أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف ؟
قال نعم وخامسها : أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات وسادسها : ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام وسابعها : أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا وثامنها : أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٢


الصفحة التالية
Icon