روى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت، قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما نلقى من المشركين، فقال :"إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم، حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين، ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب وما يصرفه ذلك عن دينه، وايم الله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
المسألة الرابعة : قرأ نافع ﴿حَتَّى يَقُولَ﴾ برفع اللام والباقون بالنصب، ووجهه أن ﴿حَتَّى ﴾ إذا نصبت المضارع تكون على ضربين أحدهما : أن تكون بمعنى : إلى، وفي هذا الضرب يكون الفعل الذي حصل قبل ﴿حَتَّى ﴾ والذي حصل بعدها قد وجدا ومضيا، تقول : سرت حتى أدخلها، أي إلى أن أدخلها، فالسير والدخول قد وجدا مضياً، وعليه النصب في هذه الآية، لأن التقدير : وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، والزلزلة والقول قد وجدا والثاني : أن تكون بمعنى : كي، كقوله : أطعت الله حتى أدخل الجنة، أي كي أدخل الجنة، والطاعة قد وجدت والدخول لم يوجد، ونصب الآية لا يمكن أن يكون على هذا الوجه، وأما الرفع فاعلم أن الفعل الواقع بعد ﴿حَتَّى ﴾ لا بد وأن يكون على سبيل الحال المحكية التي وجدت، كما حكيت الحال في قوله :﴿هَـاذَا مِن شِيعَتِه وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّه ﴾ (القصص : ١٥) وفي قوله :﴿وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ (الكهف : ١٨) لأن هذا لا يصح إلا على / سبيل أن في ذلك الوقت كان يقال هذا الكلام، ويقال : شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنة، والمعنى شربت حتى إن من حضر هناك يقال : يجيء البعير يجر بطنه، ثم هذا قد يصدق عند انقضاء السبب وحده دون المسبب، كقولك : سرت حتى أدخل البلد. فيحتمل أن السير والدخول قد وجدا وحصلا، ويحتمل أن يكون قد وجد السير والدخول بعد لم يوجد، فهذا هو الكلام في تقرير وجه النصب ووجه الرفع، واعلم أن الأكثرين اختاروا النصب لأن قراءة الرفع لا تصح إلا إذا جعلنا الكلام حكاية عمن يخبر عنها حال وقوعها، وقراءة النصب لا تحتاج إلى هذا الفرض فلا جرم كانت قراءة النصب أولى.
المسألة الخامسة : في الآية إشكال، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٧
والجواب عنه من وجوه أحدها : أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء، قال تعالى :﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ (الحجر : ٩٧) وقال تعالى :﴿لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء : ٣) وقال تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا اسْتَيْـاَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ﴾ (يوسف : ١١٠) وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته، وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك، قال عند ضيق قلبه :﴿مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾ حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطالب قلبه، والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب :﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعاً عن القرب/ ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا ؟
لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال، وهذا هو الجواب المعتمد.
والجواب الثاني : أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكر كلامين أحدهما :﴿مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾ والثاني :﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين : فالذين آمنوا قالوا :﴿مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾ والرسول صلى الله عليه وسلّم قال :﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ قالوا ولهذا نظير من القرآن والشعر، أما القرآن فقوله :﴿وَمِن رَّحْمَتِه جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِه ﴾ والمعنى : لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، وأما من الشعر فقول امرىء القيس :
كأن قلوب الطير رطباًويابسا
لدي وكرها العناب والحشف البالي
فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس، فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جداً.
المسألة السادسة :﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ يحتمل أن يكون جواباً من الله تعالى لهم، إذ قالوا :﴿مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾ فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله :﴿مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾ ثم قال الله عند ذلك ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ ويحتمل أن يكون ذلك قولاً لقوم منهم، كأنهم لما قالوا :﴿مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾ رجعوا / إلى أنفسكم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم، فقالوا :﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك.


الصفحة التالية
Icon