المسألة الأولى : قال أهل اللغة أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك وفي الحديث "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم" فسمى بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه.
المسألة الثانية : المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال، وإعدام المعدوم محال، ثم اختلف المتكلمون فيه، فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق، إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولاً بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي، وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الرديء الذي لا يستفيد منه نفعاً بل يستفيد منه أعظم المضار يقال : إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة، ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط، إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط، وإما أن لا يكون، فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه، وإن كان مجازاً وجب المصير إليه، لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان، على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٦
المسألة الثالثة : أما حبوط الأعمال في الدنيا، فهو أنه يقتل عند الطفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً، وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين، ويجوز أن يكون المعنى في قوله :﴿حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالإنتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة، وأما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بأعمالهم السالفة، وعند المنكرين لذلك معناه : أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثواباً ونفعاً في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار، ثم بين كيفية تلك المضرة فقال تعالى :﴿وَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٦
٣٩٤
قوله عز وجل :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوالَـا ئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت هذه الآية، لأن عبد الله كان مؤمناً، وكان مهاجراً، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً والثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ (البقرة : ٢١٦) وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد.
المسألة الثانية :﴿هَاجَرُوا ﴾ أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل، ومنه قيل للكلام القبيح : هجر، لأنه مما ينبغي أن يهجر، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين، وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب، فكان ذلك مهاجرة، وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة، ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو، وعند فعل العدو، ومثل ذلك فتصير مفاعلة.
ثم قال تعالى :﴿أُوالَـا ئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه ﴾ وفيه قولان :﴿الاوَّلِ ﴾ أن المراد منه الرجاء، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالفوز والثواب في عمله، بل كان يتوقعه ويرجوه.
فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقاً بالرجاء، ولم يقع به كما في سائر الآيات ؟
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٤


الصفحة التالية
Icon