ويقال خامر السقام كبده، وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول، لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له، فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل، كما سميت مسكراً لأنها تسكر العقل أي تحجزه، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمراً إذا ستره للمبالغة، ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء، فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس، وهو غير جائز، لأنا نقول : ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس، بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات، كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات، ومسمى الصوم هو الإمساك، ويثبتونه بالاشتقاقات.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥
النوع الثالث : من الدلائل الدالة على أن الخمر هو المسكر، أن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة واثنان منها وردا بلفظ الخمر أحدهما : هذه الآية والثانية : آية المائدة والثالثة : وردت في السكر وهو قوله :﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى ﴾ (النساء : ٤٣) وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر.
النوع الرابع : من الحجة أن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذاً قالا : يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل، مذهبة للمال، فبين لنا فيه، فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل، فوجب أن يكون كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في هذا الحكم.
النوع الخامس : من الحجة أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ ﴾ (المائدة : ٩١) ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر، وهذا التعليل يقيني، فعلى هذا تكون هذه الآية نصاً في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة، فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر، وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر، وكل من أنصف وترك العناد، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه أحدها : قوله تعالى :﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ (النحل : ٦٧) من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن، وما نحن فيه سكر ورزق حسن، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.
والحجة الثانية : ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها، وقال : اسقوني، فقال العباس : ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا ؟
فقال : ما تسقي الناس، فجاءه بقدح من نبيذ فشمه، فقطب وجهه ورده، فقال العباس : يا رسول الله أفسدت على / أهل مكة شرابهم، فقال : ردوا على القدح، فردوه عليه، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب، وقال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا منتها بالماء.
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص/ ولأن اغتلام الشراب شدته، كاغتلام البعير سكره.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥
الحجة الثالثة : التمسك بآثار الصحابة.
والجواب عن الأول : أن قوله تعالى :﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ نكرة في الإثبات، فلم قلتم : إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ؟
ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة، أو مخصصة لها.
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماءً نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلاً إلى الحموضة، وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم، فلذلك قطب وجهه، وأيضاً كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز.
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام، فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر.