المقام الثاني : في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر وبيانه من وجوه الأول : أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم، والإثم حرام لقوله تعالى :﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاثْمَ وَالْبَغْىَ﴾ (الأعراف : ٣٣) فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر الثاني : أن الإثم قد يراد به العقاب، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم الثالث : أنه تعالى قال :﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ صرح برجحان الإثم والعقاب، وذلك يوجب التحريم.
فإن قيل : الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم، بل تدل على أن فيه إثماً، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم : إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراماً ؟
قلنا : لأن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر، فلما بين تعالى أن فيه إثماً، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرمة، ومستلزم المحرم محرم، فوجب أن يكون الشرب محرماً، ومنهم من قال : هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر، واحتج عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس، والمحرم لا يكون فيه منفعة والثاني :/ لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة ؟
الثالث : أنه تعالى أخبر أن فيهما إثماً كبيراً فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلاً ما داما موجودين، فلو كان ذلك الإثم الكبير سبباً لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥
والجواب عن الأول : أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرماً، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعاً من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام.
والجواب عن الثاني : أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر، والتوقف الذي ذكرته غير مروى عنهم، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم، كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكوناً وطمأنينة.
والجواب عن الثالث : أن قوله :﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إخبار عن الحال لا عن الماضي، وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة فهذا تمام الكلام في هذا الباب.
المسألة الثالثة : في حقيقة الميسر فنقول : الميسر القمار، مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، يقال يسرته إذا قمرته/ واختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها : قال مقاتل : اشتقاقه من اليسر لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، كانوا يقولون : يسروا لنا ثمن الجزور، أو من اليسار لأنه سبب يساره، وعن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله وثانيها : قال ابن قتيبة : الميسر من التجزئة والاقتسام، يقال : يسروا الشيء، أي اقتسموه، فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، والياسر الجازر، لأنه يجزىء لحم الجزور، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : إنهم ياسرون لأنهم بسبب ذلك الفعل يجزؤن لحم الجزور وثالثها : قال الواحدي : إنه من قولهم : يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وميسراً إذا وجب، والياسر الواجب بسبب القداح، هذا هو الكلام في اشتقاق هذه اللفظة.
وأما صفة الميسر فقال صاحب "الكشاف" : كانت لهم عشرة قداح، وهي الأزلام والأقلام الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، بفتح الحاء وكسر اللام، وقيل بكسر الحاء وسكون اللام، والمسبل، والمعلي، والنافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء، وقيل : ثمانية وعشرين جزءاً إلا ثلاثة، وهي : المنيح والسفيح، والوعد، ولبعضهم في هذا المعنى شعر :
لي في الدنيا سهام
ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد
وسفيح ومنيح
فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل / ستة، وللمعلي سبعة، يجعلونها في الربابة، وهي الخريطة ويضعونها على يد عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥