المسألة الرابعة : اختلفوا في أن الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين، أو هو اسم لجميع أنواع القمار، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم :"إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم" وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز، وأما الشطرنج فروي عن علي عليه السلام أنه قال : النرد والشطرنج من الميسر، وقال الشافعي رضي الله عنه : إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال، أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً، والله أعلم، أما السبق في الخف والحافر فبالاتفاق ليس من الميسر، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه.
المسألة الخامسة : الإثم الكبير، فيه أمور أحدها : أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو العقل، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور، وتقريره أن العقل إنما سمي عقلاً لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعاً له من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل المانع منها، والتقريب بعد ذلك معلوم، ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء، ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً، وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جراءتك ؟
فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسى سفيههم وثانيها : ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وثالثها : أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر، ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى. بخلاف سائر المعاصي، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم، بخلاف الشرب، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر، كان نشاطه أكثر، ورغبته فيه أتم. فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقاً في اللذات البدنية، معرضاً عن تذكر الآخرة والمعاد، حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وبالجملة فالخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل / حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :"الخمر أم الخبائث" وأما الميسر فالإثم فيه أنه يفضي إلى العداوة، وأيضاً لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضاً يورث العداوة، لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجاناً أبغضه جداً، وهو أيضاً يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما المنافع المذكورة في قوله تعالى :﴿وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فمنافع الخمر أنهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النواحي، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن كانوا يعدون ذلك فضيلة ومكرمة، فكان تكثر أرباحهم بذلك السبب، ومنها أنه يقوي الضعيف ويهضم الطعام ويعين على الباه، ويسلي المحزون، ويشجع الجبان، ويسخي البخيل ويصفي اللون، وينعش الحرارة الغريزية ويزيد في الهمة والاستعلاء ومن منافع الميسر : التوسعة على ذوي الحاجة لأن من قمر لم يأكل من الجزور، وإنما كان يفرقه في المحتاجين وذكر الواقدي أن الواحد منهم كان ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال من غير كد وتعب، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب منه المدح والثناء.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥
المسألة السادسة : قرأ حمزة والكسائي ﴿كَثِيرٌ﴾ بالثاء المنقوطة من فوق والباقون بالباء المنقوطة من تحت حجة حمزة والكسائي، أن الله وصف أنواعاً كثيرة من الإثم في الخمر والميسر وهو قوله :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ (المائدة : ٩١) فذكر أعداداً من الذنوب فيهما ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لعن عشرة بسبب الخمر، وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما، ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع لأنه قال : فيهما إثم ومنافع، وكما أن المنافع أعداد كثيرة فكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال : فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة حجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيراً يدل عليه قوله تعالى :﴿كَبَـا اـاِرَ الاثْمِ﴾ (النجم : ٣٢)، ﴿كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ﴾ (النساء : ٣١)، ﴿إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ (النساء : ٢) وأيضاً القراء اتفقوا على قوله :﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ﴾ بالباء المنقوطة من تحت، وذلك يرجح ما قلناه.
الحكم الرابع
في الإنفاق
قوله تعالى :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ﴾.