والجواب : أن هذا مشكل بقوله تعالى :﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ (الأحزاب : ٧) وبقوله تعالى :﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ﴾ فإن قالوا إنما خص بالذكر تنبيهاً على كمال الدرجة في ذلك الوصف المذكور، قلنا : فههنا أيضاً إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الإسم تنبيهاً على كمال درجتهم في هذا الكفر، فهذا جملة ما في هذه المسألة ثم اعلم أن القائلين بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين فقال قوم : وقوع هذا الإسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك، وقال الجبائي والقاضي هذا الإسم من جملة الأسماء الشرعية، واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمى كل من كان كافراً بالمشرك، ومن كان في الكفار من لا يثبت إلهاً أصلاً أو كان شاكاً في وجوده، أو كان شاكاً في وجود الشريك، وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكراً للبعث والقيامة، فلا جرم كان منكراً للبعثة والتكليف، وما كان يعبد شيئاً من الأوثان، والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون : إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم، بل كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية/ بل من الأسماء الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرهما، وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الإسم، فهذا جملة الكلام في هذه المسألة / وبالله التوفيق.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٠٧
المسألة الرابعة : الذين قالوا : إن اسم المشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان قالوا : إن قوله تعالى :﴿وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ﴾ نهى عن نكاح الوثنية، أما الذين قالوا : إن اسم المشرك يتناول جميع الكفار قالوا : ظاهر قوله تعالى :﴿وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ﴾ يدل على أنه لا يجوز نكاح الكافرة أصلاً، سواء كانت من أهل الكتاب أو لا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون من الأئمة قالوا إنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية، وعن ابن عمر ومحمد بن الحنفية والهادي وهو أحد الأئمة الزيدية أن ذلك حرام، حجة الجمهور قوله تعالى في سورة المائدة :﴿وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾ (المائدة : ٥) وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه : من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب ؟
قلنا : هذا لا يصح من قبل أنه تعالى أو لا أحل المحصنات من المؤمنات، وهذا يدخل فيه من آمن منهن بعد الكفر، ومن كن على الإيمان من أول الأمر، ولأن قوله :﴿مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾ (البقرة : ١٠١) يفيد حصول هذا الوصف في حالة الإباحة، ومما يدل على جواز ذلك ما روي أن الصحابة كانوا يتزوجون بالكتابيات، وما ظهر من أحد منهم إنكار على ذلك، فكان هذا إجماعاً على الجواز.
نقل أن حذيفة تزوج بيهودية أو نصرانية، فكتب إليه عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟
فقال : لا ولكنني أخاف.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا" ويدل عليه أيضاً الخبر المشهور، وهو ما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال في المجوس :"سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الإستثناء عبثاً، واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أولها : أن لفظ المشرك يتناول الكتابية على ما بيناه فقوله :﴿وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ صريح في تحريم نكاح الكتابية، والتخصيص والنسخ خلاف الظاهر، فوجب المصير إليه، ثم قالوا : وفي الآية ما يدل على تأكيد ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى قال في آخر الآية :﴿أُوالَـا ئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ والوصف إذا ذكر عقيب الحكم، وكان الوصف مناسباً للحكم فالظاهر أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم فكأنه تعالى قال : حرمت عليكم نكاح المشركات لأنهن يدعون إلى النار وهذه العلة قائمة في الكتابية، فوجب القطع بكونها محرمة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٠٧
والحجة الثانية : لهم : أن ابن عمر سئل عن هذه المسألة فتلا آية التحريم وآية التحليل، ووجه الاستدلال أن الأصل في الإبضاع الحرمة، فلما تعارض دليل الحرمة تساقطاً، فوجب بقاء / حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين، فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية، فحكمتم عند ذلك بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا ههنا.


الصفحة التالية
Icon