الحجة الثانية : أن قوله تعالى :﴿يَطْهُرْنَا فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ علق الإتيان على التطهر بكلمة ﴿إِذَآ﴾ وكلمة ﴿إِذَآ﴾ للشرط في اللغة، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر، حجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى :﴿وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ نهى عن قربانهن وجعل غاية ذلك النهي أن يطهرن بمعنى ينقطع حيضهن، وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي وجب أن لا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض، أجاب القاضي عنه بأنه لو اقتصر على قوله :﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ لكان ما ذكرتم لازماً، أما لما ضم إليه قوله :﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ صار المجموع هو الغاية وذلك بمنزلة أن يقول الرجل : لا تكلم فلاناً حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه، فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً، وإذا ثبت أنه لا بد بعد انقطاع الحيض من التطهر فقد اختلفوا في ذلك التطهر فقال الشافعي وأكثر الفقهاء : هو الاغتسال وقال بعضهم : وهو غسل الموضع، وقال عطاء وطاوس : هو أن تغسل الموضع وتتوضأ، والصحيح هو الأول لوجهين الأول : أن ظاهر قوله :﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ حكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يحصل هذا التطهر في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها والثاني : أن حمله على التطهر الذي يختص الحيض بوجوبه أولى من التطهر الذي يثبت في الاستحاضة كثبوته في الحيض، فهذا يوجب أن المراد به الاغتسال وإذا أمكن بوجود الماء وإن تعذر ذلك فقد أجمع القائلون بوجوب الاغتسال على أن التيمم يقوم مقامه، وإنما أثبتنا التيمم مقام الاغتسال بدلالة الإجماع، وإلا فالظاهر يقتضي أن لا يجوز قربانها إلا عند الاغتسال بالماء.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٤
المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد بقوله تعالى :﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه ﴾ وفيه وجوه الأول : وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة : فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به، ولا تؤتوهن في غير المأتي، وقوله :﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه ﴾ أي في حيث أمركم الله، كقوله :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ﴾ أي في يوم الجمعة. الثاني : قال الأصم والزجاج : أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن، وذلك بأن لا يكن صائمات، ولا معتكفات، ولا محرمات الثالث : وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور، والأقرب هو القول الأول لأن لفظة ﴿حَيْثُ﴾ حقيقة في المكان مجاز في غيره.
أما قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ فالكلام في تفسير محبة الله تعالى، وفي تفسير التوبة قد تقدم فلا نعيده إلا أنا نقول : التواب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة، وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة.
فإن قيل : ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقاً والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب، فمن لم يكن مذنباً وجب أن لا تحسن منه التوبة.
والجواب من وجهين : الأول : أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير، فتلزمه التوبة دفعاً لذلك التقصير المجوز الثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني ﴿التَّوْبَةُ﴾ في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع، إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي، والترك في الحاضر، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي، ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول : مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية، فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية، لئلا يتوجه الطعن والسؤال.
أما قوله تعالى :﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ففيه وجوه أحدها : المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه، ولا ثالث لهذين القسمين، واللفظ محتمل لذلك، لأن الذنب نجاسة روحانية، ولذلك قال :﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة : ٢٨) فتركه يكون طهارة روحانية، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزهاً عن العيوب والقبائح، ويقال : فلان طاهر الذيل.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٤
والقول الثاني : أن المراد : لا يأتيها في زمان الحيض، وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال :﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه ﴾ ومن قال بهذا القول قال : هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط ﴿أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُم إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (الأعراف : ٨٢) فكان قوله :﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ترك الإتيان في الأدبار.