أما قوله :﴿وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ ﴾ فمعناه : افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ونظيره أن يقول الرجل لغيره : قدم لنفسك عملاً صالحاً، وهو كقوله :﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (البقرة : ١٩٧) ونظير لفظ التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار وهو قوله :﴿قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُم أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ (ص : ٦٠).
فإن قيل : كيف تعلق هذا الكلام بما قبله ؟
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢١
قلنا : نقل عن ابن عباس أنه قال : معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد، والذي عندي فيه أن قوله :﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء، كأنه قيل : هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها ثم قال بعده :﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث، فأتوا حرثكم، ولاتأتوا غير موضع الحرث، فكان قوله :﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ دليلاً على الإذن في ذلك الموضع، والمنع من غير ذلك الموضع، فلما اشتملت الآية عل الإذن في أحد الموضعين، والمنع عن الموضع الآخر، لا جرم قال :﴿وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ ﴾ أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ثم أكده ثالثاً بقوله :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوه ﴾ وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى، فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل، وما بعدها أيضاً دال على تحريمه، فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين.
أما قوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوه ﴾ فاعلم أن الكلام في التقوى قد تقدم، والكلام في تفسير لقاء الله تعالى قد تقدم في قوله :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ﴾ (البقرة : ٤٦) واعلم أنه تعالى ذكر هذه الأمور الثلاثة أولها :﴿وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ ﴾ والمراد منه فعل الطاعات وثانيها : قوله :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ والمراد منه ترك المحظورات وثالثها : قوله :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوه ﴾ وفيه إشارة إلى أنى إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب، فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثاً وما أحسن هذا الترتيب، ثم قال :﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن / وهو أن يجعل مع كل وعيد وعداً والمعنى وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة فحذف ذكرهما لما أنهم كالمعلوم، فصار كقوله :﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ (الأحزاب : ٤٧).
الحكم التاسع
في الأيمان
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢١
٤٢٤
والمفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية، وأجود ما ذكروه وجهان الأول : وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو الأحسن أن قوله :﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ﴾ نهى عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل : قد جعلتني عرضة للومك، وقال الشاعر :
ولا تجعلني عرضة للوائم
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله :﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ﴾ (القلم : ١٠) وقال تعالى :﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَـانَكُمْ ﴾ (المائدة : ٨٩) والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كثير :
قليل الألا يا حافظ ليمينه
وإن سبقت منه الألية برت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين، وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية.
وأما قوله تعالى بعد ذلك :﴿أَن تَبَرُّوا ﴾ فهو علة لهذا النهي، فقوله :﴿أَن تَبَرُّوا ﴾ أي إرادة أن تبروا، والمعنى : إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين.
فإن قيل : وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس ؟


الصفحة التالية
Icon