المسألة الثانية : احتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على وجوب الكفارة في اليمين الغموس، قال : إنه تعالى ذكر ههنا ﴿وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ وقال في آية المائدة :﴿وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَ ﴾ وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد منه عقد القلب به، ولأن يكون المراد به العقد الذي يضاد الحل، فلما ذكر ههنا قوله :﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضاً ذكر المؤاخذة ههنا، ولم يبين أن تلك المؤاخذة ما هي، وبينها في آية المائدة بقوله :﴿وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَا فَكَفَّـارَتُه ﴾ فبين أن المؤاخذة هي الكفارة، فكل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه، مبينة من وجه آخر فصارت كل واحدة منهما مفسرة للأخرى من وجه، وحصل من كل واحدة منهما أن كل يمين ذكر على سبيل الجد وربط القلب، فالكفارة واجبة فيها، واليمين الغموس كذلك فكانت الكفارة واجبة فيها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٦
أما قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فقد علمت أن : الغفور، مبالغة في ستر الذنوب، وفي إسقاط عقوبتها، وأما : الحليم، فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون، يقال : ضع الهودج على أحلم الجمال، أي على أشدها تؤدة في السير، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون، وحلمة الثدي، ومعنى : الحليم، في صفة الله : الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٦
٤٢٨
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : آلى يؤالي إيلاء، وتألى يتألى تألياً، وائتلى يأتلي ائتلاء، والإسم منه ألية وألوة، كلاهما بالتشديد، وحكى أبو عبيدة الوة والوة والوة ثلاثة لغات، وبالجملة فالألية والقسم واليمين، والحلف، كلها عبارات عن معنى واحد، وفي الحديث حكاية عن الله تعالى :"آليت أفعل خلاف المقدرين" وقال كثير :
قليل الألايا حافظ ليمينه
فإن سبقت منه الألية برت
هذا هو معنى اللفظ بحسب أصل اللغة، أما في عرف الشعر فهو اليمين على ترك الوطء، كما إذا قال : والله لا أجامعك، ولا أباضعك، ولا أقربك، ومن المفسرين من قال : في الآية حذف تقديره : للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، إلا أنه حذف لدلالة الباقي عليه، وأنا أقول : هذا الإضمار إنما يحتاج إليه إذا حملنا لفظ الإيلاء على المعهود اللغوي، أما إذا حملناه على المتعارف في الشرع استغنينا عن هذا الإضمار.
المسألة الثانية : روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقاً قال سعيد بن المسيب : كان الرجل لا يريد المرأة ولا يجب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة، ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً، فأزال الله تعالى ذلك وأمهل للزوج مدة حتى يتروى ويتأمل، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها.
المسألة الثالثة : قرأ عبد الله ﴿يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ﴿يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾.
أما قوله :﴿مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ ففيه سؤال، وهو أنه يقال : المتعارف أن يقال : حلف فلان على / كذا أو آلى على كذا، فلم أبدلت لفظة ﴿عَلَى﴾ ههنا بلفظة ﴿مِّنْ﴾ ؟
والجواب من وجهين : الأول : أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر، كما يقال : لي منك كذا والثاني : أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٨
أما قوله تعالى :﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ فاعلم أن التربص التلبث والانتظار يقال : تربصت الشيء تربصاً، ويقال : ما لي على هذا الأمر ربصة، أي تلبث، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله : بينهما مسيرة يوم، أي مسيرة في يوم ومثله كثير.
أما قوله :﴿فَإِن فَآءُو﴾ فمعناه فإن رجعوا، والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل، ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود : فيء، وفرق أهل العربية بين الفيء والظل، فقالوا : الفيء ما كان بالعشي، لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء، لأنه لا شمس فيها، قال الله تعالى :﴿وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ﴾ (الواقعة : ٣٠) وأنشدوا :
فلا الظل من برد الضحى يستطيعه
ولا الفيء من برد العشي يذوق
وقيل : فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب، أي سريع الرجوع عن الغصب إلى الحالة المتقدمة وقيل : لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله :﴿فَإِن فَآءُو﴾ معناه فإن فرجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين.