أما قوله :﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فهو يدل على عدم العقاب، لكن عدم العقاب لا ينافي وجوب الفعل، كما أن التائب عن الزنا والقتل لا عقاب عليه، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص، وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال : إن وطئتك فعبدي حر، أو أنت طالق، أو ضرتك طالق، أو ألزم أمراً في الذمة، فقال : إن وطئتك فلله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو صوم، أو حج، أو صلاة، فهل يكون مولياً للشافعي رضي الله عنه فيه قولان : قال في القديم : لا يكون مولياً، وبه قال أحمد في ظاهر الرواية دليله أن الإيلاء معهود في الجاهلية، ثم قد ثبت أن معهود الجاهلية في هذا الباب هو الحلف بالله، وأيضاً روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال : من حلف فليحلف بالله، فمطلق الحلف يفهم منه الحلف بالله، وقال في الجديد، وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة العلماء رحمهم الله أنه يكون مولياً لأن لفظ الإيلاء يتناول الكل، وعلق القولين فيمينه منعقدة فإن كان قد علق به عتقاً أو طلاقاً، فإذا وطئها يقع ذلك المتعلق، وإن كان المعلق به التزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج، وفيه أقوال أصحها : أن عليه كفارة اليمين والثاني : عليه الوفاء بما سمى، والثالث : أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى، وفائدة هذين القولين أنا إن قلنا إنه يكون مولياً فبعد مضي أربعة أشهر يضيق الأمر عليه حتى يفيء أو يطلق وإن قلنا : لا يكون مولياً لا يضيق عليه الأمر.
المسألة الثالثة : اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال فالأول : قول ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أبداً والثاني : قول الحسن البصري وإسحق : إن أي مدة حلف عليها كان مولياً وإن كانت يوماً، وهذان المذهبان في غاية التباعد والثالث : قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد والرابع : قول الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم : إنه لا يكون موا لياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر وفائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة، وهذه المدة تكون حقاً للزوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه، وعن أبي حنيفة : إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه، حجة الشافعي من وجوه :
الحجة الأولى : أن الفاء في قوله :﴿فَإِن فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تقتضي كون هذين الحكمين مشروعين متراخياً عن انقضاء الأربعة أشهر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٨
فإن قيل : ما ذكرتموه ممنوع لأن قوله :﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ﴾ تفصيل لقوله :﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول : أنا أنزل عندكم هذا الشهر فإن أكرمتموني بقيت معكم وإلا ترحلت عنكم.
قلنا : هذا ضعيف لأن قوله :﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ﴾ هذه المدة يدل على الأمرين والفاء في قوله :﴿فَإِنْ﴾ ورد عقيب ذكرهما/ فيكون هذا الحكم مشروعاً عقيب الإيلاء، وعقيب حصول التربص في هذه المدة بخلاف المثال الذي ذكره وهو قوله : أنا أنزل عندكم فإن أكرمتموني بقيت وإلا ترحلت، لأن هناك الفاء متأخرة عن ذلك النزول، أما ههنا فالفاء مذكورة عقيب ذكر الإيلاء وذكر التربص، فلا بد وأن يكون ما دخل الفاء عليه واقعاً عقيب هذين الأمرين، وهذا كلام ظاهر.
الحجة الثانية : للشافعي رضي الله عنه أن قوله :﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ﴾ صريح في أن وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج، وعلى قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يقع الطلاق بمضي المدة لا بإيقاع الزوج.
فإن قيل : الإيلاء الطلاق في نفسه. فالمراد من قوله :﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ﴾ الإيلاء المتقدم.
قلنا : هذا بعيد لأن قوله :﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ﴾ لا بد وأن يكون معناه : وإن عزم الذين يؤلون الطلاق، فجعل المؤلى عازماً، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاء والعزم قد اجتمعا، وأما الطلاق فهو متعلق العزم، ومتعلق العزم متأخر عن العزم، فإذاً الطلاق متأخر عن العزم لا محالة، والإيلاء إما أن يكون مقارناً للعزم أو متقدماً، وهذا يفيد القطع بأن الطلاق في هذه الآية مغاير لذلك الإيلاء وهذا كلام ظاهر.
الحجة الثالثة : أن قوله تعالى :﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يقتضي أن يصدر من الزوج شيء يكون مسموعاً، وما ذاك إلا أن نقول تقدير الآية فإن عزموا الطلاق وطلقوا فإن الله سميع لكلامهم، عليم بما في قلوبهم.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء.
قلنا : هذا يبعد لأن هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء، بل إنما حصل على شيء حصل بعد الإيلاء، وهو كلام غيره حتى يكون ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تهديداً عليه.


الصفحة التالية
Icon