الحجة السابعة : لهم : أن القول بأل القروء هي الحيض احتياط وتغليب لجانب الحرمة، لأن المطلقة إذا مر عليها بقية الطهر وطعنت في الحيضة الثالثة فإن جعلنا القرء هو الحيض، فحينئذ يحرم للغير التزوج بها، وإن جعلنا القرء طهراً، فحينئذ يحل للغير التزوج بها، وجانب التحريم أولى بالرعاية، لقوله صلى الله عليه وسلّم :"ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال" ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة، ولأن هذا أقرب إلى الاحتياط، فكان أولى لقوله صلى الله عليه وسلّم :"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فهذا جملة الوجوه في هذا الباب.
واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات، ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه.
أما قوله تعالى :﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ﴾ فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء، وضع الحمل في حق الحامل، وكان الوصول إلى علم ذلك للرجال متعذراً جعلت المرأة أمينة في العدة، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يوماً وساعة، لأن أمرها يحمل على أنها طقلت طاهرة فحاضت بعد سعة، ثم حاضت يوماً وليلة وهو أقل الحيض، ثم طهرت خمسة عشر يوماً وهو أقل الطهر، مرة أخرى يوماً وليلة، ثم طهرت خمسة عشر يوماً، ثم رأيت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار، فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها، وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت أنها أسقطت كان القول قولها، لأنها على أصل أمانتها.
واعلم أن للمفسرين في قوله :﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ﴾ ثلاثة أقوال الأول : أنه الحبل والحيض معاً، وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما/ أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زماناً من انقضاء عدتها بوضع الحمل، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول، وربما أحبت التزوج بزوج آخر. / أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل، وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولاً فكتمته، ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة، وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل، وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها، فثبت أنه كما أن لها غرضاً في كتمان الحبل، فكذلك في كتمان الحيض، فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٣٣
القول الثاني : أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ وثانيها : أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها : أن حمل قوله تعالى :﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ﴾ على الولد الذي هو جوهر شريف، أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة، لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها، وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح، فوجب حمل اللفظ على الكل.
القول الثالث : المراد هو النهي عن كتمان الحيض، لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الإقراء، ولم يتقدم ذكر الحمل، وهذا أيضاً ضعيف، لأن قوله :﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ﴾ كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم.
أما قوله تعالى :﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ ﴾ فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم : إن كنت مؤمناً فلا تظلم، تريد إن كنت مؤمناً فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء، وهو كما قال في الشهادة ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّه ا ءَاثِمٌ قَلْبُه ﴾ (البقرة : ٢٨٣) وقال :﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه ﴾ (البقرة : ٢٨٣) والآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد.