المسألة الثانية : اختلف المفسرون في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو متعلق بما قبله، قال قوم : إنه حكم مبتدأ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، وهذا التفسير هو قول من قال : الجمع بين الثلاث حرام، وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار : أن هذا هو قول عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدرداء وحذيفة.
والقول الأول : في تفسير الآية أن هذا ليس ابتداء كلام بل هو متعلق بما قبله، والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان، ولا رجعة بعد الثلاث، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الثلاث، وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه.
حجة القائلين بالقول الأول : أن لفظ الطلاق يفيد الاستغراق، لأن الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفادا الاستغراق، فصار تقدير الآية : كل الطلاق مرتان، ومرة ثالثة، ولو قال هكذا لأفاد أن الطلاق المشروع متفرق، لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق بالإجماع.
فإن قيل : هذه الآية وردت لبيان الطلاق المسنون، وعندي الجمع مباح لا مسنون.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤١
قلنا : ليس في الآية بيان صفة السنة، بل كان تفسير الأصل الطلاق، ثم قال هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الخبر، إلا أن معناه هو الأمر، أي طلقوا مرتين يعني دفعتين، وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لما ذكرنا فيما تقدم أن التعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر، فثبت أن هذه الآية دالة على الأمر بتفريق الطلقات، وعلى التشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين الأول : وهو اختيار كثير من علماء الدين، أنه لو طلقها اثنين أو ثلاثاً لا يقع إلا الواحدة، وهذا القول هو الأقيس، لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعى في إدخال تلك المفسدة في الوجود وأنه غير جائز، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع.
والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع، وهذا / منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد.
القول الثالث : في تفسير هذه الآية أن نقول : أنها ليست كلاماً مبتدأ، بل هي متعلقة بما قبلها، وذلك لأنه تعالى بين في الآية الأولى أن حق المراجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة/ فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين، أو كالعام المفتقر إلى المخصص فبين في هذه الآية أن ذلك الطلاق الذي ثبت فيه للزوج حق الرجعة، هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعد الطلقتين فلا يثبت ألبتة حق الرجعة بالألف واللام في قوله : الطلاق للمعهود السابق، يعني ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة هو أن يوجد مرتين، فهذا تفسير حسن مطابق لنظم الآية والذي يدل على أن هذا التفسير أولى لوجوه الأول : أن قوله :﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ (البقرة : ٢٢٨) إن كان لكل الأحوال فهو مفتقر إلى المخصص، وإن لم يكن عاماً فهو مجمل، لأنه ليس فيه بيان الشرط الذي عنده يثبت حق الرجعة، فيكون مفتقراً إلى البيان، فإذا جعلنا الآية الثانية متعلقة بما قبلها كان المخصص حاصلاً مع العام المخصوص، أو كان البيان حاصلاً مع المجمل، وذلك أولى من أن لا يكون كذلك، لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن كان جائزاً إلا أن الأرجح أن لا يتأخر.
الحجة الثانية : إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ، كان قوله :﴿الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ ﴾ يقتضي حصر كل الطلاق في المرتين وهو باطل بالإجماع، لا يقال : إنه تعالى ذكر الطلقة الثالثة، وهو قوله :﴿أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ فصار تقدير الآية : الطلاق مرتان ومرة، لأنا نقول : إن قوله :﴿أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ متعلق بقوله :﴿فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ﴾ لا بقوله :﴿الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ ﴾ ولأن لفظ التسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطلاق، ولأنا لو جعلنا التسريح هو الطلقة الثالثة، لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وإنه غير جائز.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤١
الحجة الثالثة : ما روينا في سبب نزول هذه الآية، إنها إنما نزلت بسبب امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها أن زوجها يطلقها ويراجعها كثيراً بسبب المضارة، وقد أجمعوا على أن سبب نزول الآية لا يجوز أن يكون خارجاً عن عموم الآية، فكان تنزيل هذه الآية على هذا المعنى أولى من تنزيلها على حكم آخر أجنبي عنه.
أما قوله تعالى :﴿فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الإمساك خلاف الإطلاق والمساك والمسكة اسمان منه، يقال : إنه لذو مسكة ومساكة إذا كان بخيلاً قال الفراء : يقال إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي قوة، وأما التسريح فهو الإرسال، وتسريح الشعر تخليصك بعضه من بعض، وسرح الماشية إذا أرسلها ترعى.