المسألة الثانية : تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج، هو أن يوجد مرتان، ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح والإنفاع، وفي معنى الآية وجهان أحدهما : أن توقع عليها الطلقة الثالثة، روى أنه لما نزل قوله تعالى :﴿الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ ﴾ قيل له صلى الله عليه وسلّم : فأين الثالثة ؟
فقال صلى الله عليه وسلّم : هو قوله :﴿أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ والثاني : أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو مروي عن الضحاك والسدي.
واعلم أن هذا الوجه هو الأقرب لوجوه أحدها : أن الفاء في قوله :﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ (البقرة : ٢٣٠) تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة، لكان قوله : فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز وثانيها : أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال، لأنه بعد الطلقة الثانية، إما أن يراجعها وهو المراد بقوله :﴿فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ﴾ أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله :﴿أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ أو يطلقها وهو المراد بقوله :﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام، أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقاً آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث، ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز وثالثها : أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق ورابعها : أنه قال بعد ذكر التسريح ﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ والمراد به الخلع، ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة، فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤١
واعلم أن المراد من الإحسان، هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها.
المسألة الثالثة : الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب، فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده.
قوله تعالى :﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا﴾.
واعلم أن هذا هو الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع، واعلم أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقروناً بالإحسان، بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها، وذلك لأنه ملك بضعها، واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها، فلا يجوز أن يأخذ منها شيئاً، ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء، كما قال في سورة النساء :﴿وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ﴾ (النساء : ١٩خ وقوله ههنا :﴿إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه ﴾ هو كقوله هناك :﴿إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق، ونظيره قوله تعالى :﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنا بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ (الطلاق : ١) فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضاً :﴿فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا أَتَأْخُذُونَه بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (النساء : ٢٠) فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤١
فإن قيل : لمن الخطاب في قوله :﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا ﴾ فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله :﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئاً.
قلنا : الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطاباً للأزواج وآخرها خطاباً للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في القرآن، ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون.