أما قوله تعالى :﴿إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه ﴾ فاعلم أنه تعالى لما منع الرجل أن يأخذ من امرأته عند الطلاق شيئاً استثنى هذه الصورة وهي مسألة الخلع وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، فأنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقالت : فرق بيني وبينه فإني أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة، وأقبحهم وجهاً، وأشدهم سواداً، وإني أكره الكفر بعد الإسلام، فقال ثابتٍ : يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها، فقال لها : ما تقولين ؟
قالت : نعم وأزيده فقال صلى الله عليه وسلّم : لا حديقته فقط، ثم قال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام، وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية.
المسألة الثانية : اختفلوا في أن قوله تعالى :﴿إِلا أَن يَخَافَآ﴾ هو استثناء متصل أو منقطع، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية، وهي أن أكثر المجتهدين قالوا : يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب، وقال الأزهري والنخعي وداود : لا يباح الخلع إلا عند الغضب، والخوف من أن لا يقيما حدود الله، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئاً، ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال :﴿إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه ﴾ فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف، وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى :﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا﴾ (النساء : ٤) فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، وأما كلمة ﴿إِلا﴾ فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا﴾ (النساء : ٩٢) أي لكن إن كان خطأ ﴿مِّيثَـاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى ا أَهْلِه ﴾ (النساء : ٩٢).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤١
المسألة الثالثة : الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن، وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة، وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف، وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره : قد خرج غلامك بغير إذنك، فتقول : قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته، وأنشد الفراء :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم الذي يؤكذ هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية :﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه ﴾ (البقرة : ٢٣٠).
المسألة الرابعة : اعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشرط هو حصول الخوف للرجل وللمرأة، ولا بد ههنا من مزيد بحث، فنقول : الأقسام الممكنة في هذا الباب أربعة لأنه إما أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما، أو يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً.
أما القسم الأول : وهو أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة، وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج/ فههنا يحل للزوج أخذ المال منها والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت، لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله صلى الله عليه وسلّم لها الخلع ولثابت الأخذ.
فإن قيل : فقد شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معاً، فكيف قلتم : إنه يكفي حصول الخوف منها فقط.
قلنا : سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج، لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج، وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها، وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلاً لهما جميعاً، فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج، ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه، أو لمرض منفر منه، وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج، ويكون الزوج خائفاً من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها.


الصفحة التالية
Icon