حجة أبي حنيفة رحمه الله في هذه الآية هو قوله تعالى :﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وأيضاً أنها بهذا النقصان أرادت إلحاق الشين بالأولياء، لأن الأولياء يتضررون بذلك لأنهم يعيرون بقلة المهور، ويتفاخرون بكثرتها، ولهذا يكتمون المهر القليل حياء ويظهرون المهر الكثير رياء، وأيضاً فإن نساء العشيرة يتضررن بذلك لأنه ربما وقعت الحاجة إلى إيجاب مهر المثل لبعضهن/ / فيعتبرون ذلك بهذا المهر القليل، فلا جرم للأولياء أن يمنعوها عن ذلك وينوبوا عن نساء العشيرة ثم أنه تعالى لما بين حكمة التكليف قرنه بالتهديد فقال :﴿ذالِكَ يُوعَظُ بِه مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ ﴾ وذلك لأن من حق الوعظ أن يتضمن التحذير من المخالفة كما يتضمن الترغيب في الموافقة، فكانت الآية تهديداً من هذا الوجه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٤
وفي الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم وحد الكاف في قوله تعالى :﴿ذَالِكَ﴾ مع أنه يخاطب جماعة ؟
والجواب : هذا جائز في اللغة، والتثنية أيضاً جائزة، والقرآن نزل باللغتين جميعاً، قال تعالى :﴿ذَالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى ﴾ (يوسف : ٣٧) وقال :﴿فَذَالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيه ﴾ (يوسف : ٣٢) وقال :﴿يُوعَظُ بِه ﴾ وقال :﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ (الأعراف : ٢٢).
السؤال الثاني : لم خصص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم ؟
الجواب : لوجوه أحدها : لما كان المؤمن هو المنتفع به حسن تخصيصه به كقوله :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ وهو هدى للكل، كما قال :﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ وقال :﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٤٥)، ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ (يس : ١١) مع أنه كان منذراً للكل كما قال :﴿لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان : ١) وثانيها : احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الدين، قالوا : والدليل عليه أن قوله :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم ذكره من بيان الأحكام، فلما خصص ذلك بالمؤمنين دل على أن التكليف بفروع الشرائع غير حاصل إلا في حق المؤمنين وهذا ضعيف، لأنه ثبت أن ذلك التكليف عام، قال تعالى :﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ (آل عمران : ٩٧) وثالثها : أن بيان الأحكام وإن كان عاماً في حق المكلفين، إلا أن كون ذلك البيان وعظاً مختص بالمؤمنين، لأن هذه التكاليف إنما توجب على الكفار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز، أما المؤمن الذي يقر بحقيقتها، فإنها إنما تذكر له وتشرح له على سبيل التنبيه والتحذير، ثم قال :﴿ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ يقال : زكا الزرع إذا نما فقوله :﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾ إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم، وقوله :﴿وَأَطْهَرُ ﴾ إشارة إلى إزالة الذنوب والمعاصي التي يكون حصولها سبباً لحصول العقاب، ثم قال :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ والمعنى أن المكلف وإن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على الجملة، إلا أن التفصيل في هذه الأمور غير معلوم والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير، لأنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات، فلما كان كذلك صح أن يقول :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ويجوز أن يراد به والله يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها وعلى جميع الوجوه فالمقصود من الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد.
الحكم الثاني عشر
في الرضاع
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٤
٤٥٨
قوله تعالى :﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِا لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَا وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِا لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾.
اعلم أن في قوله تعالى :﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ ثلاثة أقوال الأول : أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات، سواء كن مزوجات أو مطلقات، والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه.
والقول الثاني : المراد منه : الوالدات المطلقات، قالوا : والذي يدل على أن المراد ذلك وجهان أحدها : أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق، فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهراً، وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي، وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين أحدهما : أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق والثاني : أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر، وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم، فقال :﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ﴾ والمراد المطلقات.


الصفحة التالية
Icon