المسألة الثالثة : أنه تعالى وصى الأم برعاية الطفل أولاً، ثم وصى الأب برعايته ثانياً، وهذا يدل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب، لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة البتة، أما رعاية الأب فإنما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنه يستأجر المرأة على إرضاعه وحضانته بالنفقة والكسوة، وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة، ثم قال تعالى :﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التكليف : الإلزام، يقال : كلفه الأمر فتكلف وكلف، وقيل : إن أصله من الكلف، وهو الأثر على الوجه من السواد، فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره، والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه أخذه، من سعة الملك أي العرض، ولو ضاق لعجز عنه، والسعة بمنزلة القدرة، فلهذا قيل : الوسع فوق الطاقة.
المسألة الثانية : المراد من الآية أن أب هذا الصبي لا يكلف الإنفاق عليه وعلى أمه، إلا ما تتسع له قدرته، لأن الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة، ولا يبلغ استغراقها، وبين أنه لا يلزم الأب إلا ذلك، وهو نظير قوله في سورة الطلاق :﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن﴾ ثم قال :﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَه ا أُخْرَى ﴾ ثم بين في النفقة أنها على قدر إمكان الرجل بقوله :﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِه ا وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَـاـاهُ اللَّه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَآ﴾ (الطلاق : ٦/ ٧).
المسألة الثالثة : المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما يقدرون عليه، لأنه أخبر أنه لا يكلف أحداً إلا ما تتسع له قدرته، والوسع فوق الطاقة، فإذا لم يكلفه الله تعالى ما لا تتسع له قدرته، فبأن لا يكلفه ما لا قدرة له عليه أولى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
ثم قال :﴿لا تُضَآرَّ وَالِدَة بِوَلَدِهَا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي ﴿لا تُضَآرَّ﴾ بالرفع والباقون بالفتح، أما الرفع فقال الكسائي والفراء إنه نسق على قوله :﴿لا تُكَلَّفُ﴾ قال علي بن عيسى : هذا غلط لأن النسق بلا إنما هو إخراج الثاني مما دخل فيه الأول نحو : ضربت زيداً لا عمراً فأما أن يقال : يقوم زيد لا يقعد عمرو، فهو غير جائز على النسق، بل الصواب أنه مرفوع على الاستئناف في النهي كما يقال : لا يضرب زيد لا تقتل عمراً وأما النصب فعلى النهي، والأصل لا تضار فأدغمت / الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، يقال : يضارر رجل زيداً، وذلك لأن أصل الكلمة التضعيف، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى، فصار لا تضار، كما تقول : لا تردد ثم تدغم فتقول : لا ترد بالفتح قال تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه ﴾ (المائدة : ٥٤) وقرأ الحسن :﴿لا تُضَآرَّ﴾ بالكسر وهو جائز في اللغة، وقرأ أبان عن عاصم ﴿لا تُضَآرَّ﴾ مطهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها.
المسألة الثانية : قوله :﴿لا تُضَآرَّ﴾ يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين نظراً لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما : أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى، وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني : أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعوله بها الضرار/ وعلى الوجه الأول يكون المعنى : لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد، وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة، فتلقى الولد عليه، وعلى الوجه الثاني معناه : لا تضارر، أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له، وقوله :﴿وَلا مَوْلُودٌ لَّه بِوَلَدِه ﴾ أي : ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقى الولد عليه، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد.
فإن قيل : لم قال ﴿تُضَآرَّ﴾ والفعل لواحد ؟
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
قلنا لوجوه أحدها : أن معناه المبالغة، فإن إيذاء من يؤذيك أقوى من إيذاء من لا يؤذيك والثاني : لا يضار الأم والأب بأن لا ترضع الأم أو يمنعها الأب وينزعه منها والثالث : أن المقصود لكل واحد منهما بإضرار الولد إضرار الآخر، فكان ذلك في الحقيقة مضارة.
المسألة الثالثة : قوله :﴿لا تُضَآرَّ وَالِدَة بِوَلَدِهَا﴾ وإن كان خبراً في الظاهر، لكن المراد منه النهي، وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع، وترك التعهد والحفظ.