وقوله :﴿وَلا مَوْلُودٌ لَّه بِوَلَدِه ﴾ يتناول كل المضار، وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد، فكل ذلك داخل في هذا النهي والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ﴾ فاعلم أنه لما تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات احتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى واحد من هؤلاء، والعلماء لم يدعوا وجهاً يمكن القول به إلا وقال به بعضهم.
فالقول الأول : وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المراد وارث الأب، وذلك لأن قوله :﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ﴾ معطوف على قوله :﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وما بينهما اعتراض لبيان المعروف، والمعنى أن المولود له إن مات فعلى وارثه مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، يعني إن مات المولود له لزم وارثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور، وهو رعاية المعروف وتجنب الضرار، قال أبو مسلم الأصفهاني هذا القول ضعيف، لأنا إذا حملنا اللفظ على وارث الولد والولد أيضاً وارثه، أدى إلى وجوب نفقته على غيره، حال ماله مال ينفق منه وإن هذا غير جائز، ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي إذا ورث من أبيه مالاً فإنه يحتاج إلى من يقوم بتعهده وينفق ذلك المال عليه بالمعروف، ويدفع الضرار عنه، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.
القول الثاني : أن المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه أي وارث هو ؟
فقيل : هو العصبات دون الأم، والأخوة من الأم، وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم وقيل : هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى، قالوا : النفقة على قدر الميراث، وقيل : الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أن لا فضل بين وارث ووارث، لأنه تعالى أطلق اللفظ فغير ذي الرحم بمنزلة ذي الرحم، كما أن البعيد كالقريب، والنساء كالرجال، ولولا أن الأم خرجت من ذلك من حيث مر ذكرها بإيجاب الحق لها، لصح أيضاً دخولها تحت الكلام، لأنها قد تكون وارث كغيرها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
القول الثالث : المراد من الوارث الباقي من الأبوين، وجاء في الدعاء المشهور : واجعله الوارث منا، أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة.
القول الرابع : أراد بالوارث الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على إرضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي.
أما قوله تعالى :﴿مِثْلُ ذالِكَ ﴾ فقيل من النفقة والكسوة عن إبراهيم، وقيل : من ترك الإضرار عن الشعبي والزهري والضحاك، وقيل : منهما عن أكثر أهل العلم.
أما قوله تعالى :﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ فاعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الفصال قولان الأول : أنه الفطام لقوله تعالى :﴿وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا ﴾ (الأحقاف : ١٥) وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات قال المبرد : يقال فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً، وقرىء بهما في قوله :﴿وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ﴾ والفصال / أحسن، لأنه إذا انفصل من أمه فقد انفصلت منه، فبينهما فصال نحو القتال والضراب، وسمي الفصيل فصيلاً لأنه مفصول عن أمه، ويقال : فصل من البلد إذا خرج عنه وفارقه قال تعالى :﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ (البقرة : ٢٤٩) واعلم أن حمل الفصال ههنا على الفطام هو قول أكثر المفسرين.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار، ثم اختلفوا فمنهم من قال : المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز ومنهم من قال : إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز، وبعده أيضاً جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
حجة القول الأول أن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضاً دليلاً على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط.
وحجة القول الثاني أن الولد قد يكون ضعيفاً فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين، وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب والله أعلم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨