القول الثاني : في تفسير الفصال، وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال : ويحتمل معنى آخر، وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد.
المسألة الثانية : التشاور في اللغة : استجماع الرأي، وكذلك المشورة والمشورة مفعلة منه كالمعونة، وشرت العسل استخرجته، وقال أبو زيد : شرت الدابة وأشرتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، وقالوا : شورته فتشور، أي خجلته، والشارة هيئة الرجل، لأنه ما يظهر من زيه ويبدو من زينته، والإشارة إخراج ما في نفسك، وإظهاره للمخاطب بالنطق وبغيره.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن الفطام في أقل من حولين لا يجوز إلا عند رضا الوالدين وعند المشاورة مع أرباب التجارب وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل من إعطاء الأجرة على الإرضاع، فقد يحاول الفطام دفعاً لذلك، لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس، ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد، فعند اتفاق الكل يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره البتة فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير كم شرط في جواز إفطامه من الشرائط دفعاً للمضار عنه/ ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط لم يصرح بالإذن / بل قال :﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفاً كانت رحمة الله معه أكثر وعنايته به أشد.
اعلم أنه تعالى لما بين حكم الأم وأنها أحق بالرضاع، بين أنه يجوز العدول في هذا الباب عن الأم إلى غيرها ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : استرضع منقول من أرضع، يقال : أرضعت المرأة الصبي واسترضعها الصبي، فتعديه إلى مفعولين، كما تقول : أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول : استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن آخرهما عبارة عن الأول، وقال الواحدي :﴿أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَـادَكُمْ﴾ أي لأولادكم وحذف اللام اجتزاءً بدلالة الاسترضاع، لأنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز دعوت زيداً وأنت تريد لزيد، لأنه تلبيس ههنا بخلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف اللام قوله تعالى :﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ﴾ (المطففين : ٣) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
المسألة الثانية : اعلم أنا قد بينا أن الأم أحق بالإرضاع، فأما إذا حصل مانع عن ذلك فقد يجوز العدول عنها إلى غيرها، منها ما إذا تزوجت آخر، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الرضاع، ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الرضاع حتى يتزوج بها زوج آخر، ومنها أن تأتي المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق وإيحاشاً له، ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها، فعند أحد هذه الوجوه إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها، فأما إذا لم نجد مرضعة أخرى، أو وجدناها ولكن الطفل لا يقبل لبنها فههنا الإرضاع واجب على الأم.
أما قوله تعالى :﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وحده ﴿مَّآ ءَاتَيْتُم﴾ مقصورة الألف، والباقون ﴿مَّآ ءَاتَيْتُم﴾ ممدودة الألف، أما المد فتقديره : ما آتيتموه المرأة أي أردتم إيتاءه وأما القصر فتقديره : ما آتيتم / به، فحذف المفعولان في الأول وحذف لفظة ﴿بِه ﴾ في الثاني لحصول العلم بذلك، وروى شيبان عن عاصم ﴿مَآ أُوتِيتُمْ﴾ أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونظيره قوله تعالى :﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه ﴾ (الحديد : ٧).
المسألة الثانية : ليس التسليم شرطاً للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى والمقصود منه أن تسليم الأجرة إلى المرضعة يداً بيد حتى تكون طيبة النفس راضية فيصير ذلك سبباً لصلاح حال الصبي، والاحتياط في مصالحه، ثم إنه تعالى ختم الآية بالتحذير، فقال :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
الحكم الثالث عشر
عدة الوفاة
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
٤٦٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يتوفون معناه يموتون ويقبضون قال الله تعالى :﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ (الزمر : ٤٢) وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات فقد وجد عمره وافياً كاملاً، ويقال : توفي فلان، وتوفي إذا مات، فمن قال : توفي. كان معناه قبض وأخذ ومن قال : توفى. كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره وعليه قراءة علي عليه السلام يتوفون بفتح الياء.