أما القرآن فقوله تعالى :﴿وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ (الطلاق : ٤) ومن الناس من جعل هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ والشافعي لم يقل بذلك لوجهين الأول : أن كل واحدة من هاتين الآيتين أعم من الأخرى من وجه وأخص منها من وجه، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى، كما أن التي توفى عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون، ولما كان الأمر كذلك امتنع جعل إحدى الآيتين مخصصة للأخرى والثاني : أن قوله :﴿وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ إنما ورد عقيب ذكر المطلقات، فربما يقول قائل : هي في المطلقة لا في المتوفى عنها زوجها. فلهذين السببين لم يعول الشافعي في الباب على القرآن، وإنما عول على السنة، وهي ما روى أبو داود بإسناده أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فلما طهرت من دمها تجملت للخطاب، فقال لها بعض الناس : ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة : فسألت النبي صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزوج إن بدا لي، إذا عرفت هذا الأصل فههنا تفاريع الأول : لا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول وهذا قول متروك لأن الآية عامة في حق الكل.
الحكم الثاني : إذا تمت أربعة أشهر وعشر انقضت عدتها، وإن لم تر عادتها من الحيض فيها وقال مالك : لا تنقضي عدتها حتى ترى عادتها من الحيض في تلك الأيام، مثلاً إن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة فعليها حيضة واحدة، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا تكفيها الشهور حجة الشافعي رحمه الله أن هذه الآية دلت على أنه تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزد على هذا القدر فوجب أن يكون هذا القدر كافياً، ثم قال الشافعي : إنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة، كما أن ذات الإقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.
الحكم الثالث : إذا مات الزوج فإن كان بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيام فالشهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلة سواء خرجت كاملة أو ناقصة/ ثم تكمل الشهر الأول بالخامس ثلاثين يوماً، ثم تضم إليها عشرة أيام، وإن مات وقد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلة وكمل العشر من الشهر السادس.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٥
المسألة السابعة : أجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني فإنه أبى نسخها، وسنذكر كلامه من بعد إن شاء الله تعالى، والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول، إذ ليس ترتيب المصحف على ترتيب النزول، وإنما ترتيب التلاوة في المصاحف هو ترتيب جبريل بأمر الله تعالى.
المسألة الثامنة : اختلفوا في أن هذه العدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة، فقال بعضهم : ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة، واحتجوا بأنه تعالى قال :﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾ ولا يحصل إلا إذا قصدت هذا التربص، والقصد إلى التربص لا يحصل إلا مع العلم بذلك، والأكثرون قالوا السبب هو الموت، فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى، قالوا والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة.
المسألة التاسعة : المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه : والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي شيء إلا أنا نقول : الامتناع عن النكاح مجمع عليه، وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة، وأما ترك التزين فهو واجب، لما روي عن عائشة وحفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وقال الحسن والشعبي : هو غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه والله أعلم.
واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"وتلبثي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت".
المسألة العاشرة : احتج من قال : إن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع بقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾ فقوله :﴿مِّنكُم﴾ خطاب مع المؤمنين، فدل على أن الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط.


الصفحة التالية
Icon