والجواب : أن السر ضد الجهر والإعلان، فيحتمل أن يكون السر ههنا صفة المواعدة على شيء : ولا تواعدوهن مواعدة سرية ويحتمل أن يكون صفة للموعود به على معنى ولا توعدوهن بالشيء الذي يكون موصوفاً بوصف كونه سراً، أما على التقدير الأول وهو أظهر التقديرين، فالمواقعة بين الرجل وبين المرأة على وجه السر لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات، وههنا احتمالات الأول : أن يواعدها في السر بالنكاح فيكون المعنى أن أول الآية إذن في التعريض بالخطبة وآخر الآية منع عن التصريح بالخطبة الثاني : أن يواعدها بذكر الجماع والرفث، لأن ذكر ذلك بين الأجنبي والأجنبية غير جائز، قال تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم :﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ (الأحزاب : ٣٢) أي لا تقلن من أمر الرفث شيئاً ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِه مَرَضٌ﴾ (الأحزاب : ٣٢) الثالث : قال الحسن :﴿وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ بالزنا طعن القاضي في هذا الوجه، وقال : إن المواعدة محرمة بالإطلاق فحمل الكلام ما يخص به الخاطب حال العدة أولى.
والجواب : روى الحسن أن الرجل يدخل على المرأة، وهو يعرض بالنكاح فيقول لها : دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك، فالله تعالى نهى عن ذلك الرابع : أن يكون / ذلك نهياً عن أن يسار الرجل المرأة الأجنبية، لأن ذلك يورث نوع ريبة فيها الخامس : أن يعاهدها بأن لا يتزوج أحداً سواها.
أما إذا حملنا السر على الموعود به ففيه وجوه الأول : السر الجماع قال امرؤ القيس :
وأن لا يشهد السر أمثالي
وقال الفرزدق :
موانع للأسرار إلا من أهلها
ويخلفن ما ظن الغيور المشغف
أي الذي شغفه بهن، يعني أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد لا يصف نفسه لها فيقول : آتيك الأربعة والخمسة الثاني : أن يكون المراد من السر النكاح، وذلك لأن الوطء يسمى سراً والنكاح سببه وتسمية الشيء باسم سببه جائز.
أما قوله تعالى :﴿إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا ﴾ ففيه سؤال، وهو أنه تعالى بأي شيء علق هذا الاستثناء.
وجوابه : أنه تعالى لما أذن في أول الآية بالتعريض، ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض والله أعلم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٩
قوله تعالى :﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَه ا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ﴾.
اعلم أن في لفظ العزم وجوهاً الأول : أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال، قال تعالى :﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه ﴾ (آل عمران : ١٥٩) واعلم أن العزم إنما يكون عزماً على الفعل، فلا بد في الآية من إضمار فعل/ وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف ﴿عَلَى﴾ فيقال : فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية : ولا تعزموا على عقدة النكاح، قال سيبويه : والحذف في هذه الأشياء لا يقاس، فعلى هذا تقدير الآية : ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكداً عن الإقدام على المعزوم عليه أولى.
القول الثاني : أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب، يقال : عزمت عليكم، أي أوجبت عليكم ويقال : هذا من باب العزائم لا من باب الرخص، وقال عليه الصلاة والسلام :"عزمة من عزمات ربنا" وقال :"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز.
إذا عرفت هذا فنقول : الإيجاب سبب الوجود ظاهراً، فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله :﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه، ولا تفرغوا منه فعلاً، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين.
القول الثالث : قال القفال رحمه الله : إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح، لأن المعنى : لا تعزموا عليهن عقدة النكاح، أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح، كما تقول : عزمت عليك أن تفعل كذا.
فأما قوله تعالى :﴿عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ فاعلم أن أصل العقد الشد، والعهود والأنكحة تسمى عقوداً لأنها تعقد كما يعقد الحبل.


الصفحة التالية
Icon