أما قوله تعالى :﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَه ﴾ ففي الكتاب وجهان الأول : المراد منه : المكتوب والمعنى : تبلغ العدة المفروضة آخرها، وصارت منقضية والثاني : أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ (البقرة : ١٨٣) فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وإنما حسن أن يعبر عن معنى : فرض، بلفظ ﴿كَتَبَ﴾ لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله :﴿حَتَّى ﴾ هو غاية فلا بد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم، لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٩
ثم إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوه ﴾ وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالماً بالسر والعلانية، وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد، فقال :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
الحكم الخامس عشر
حكم المطلقة قبل الدخول
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٦٩
٤٧٣
اعلم أن أقسام المطلقات أربعة أحدها : المطلقة التي تكون مفروضاً لها ومدخولاً بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر، وأن عدتهن ثلاثة قروء.
والقسم الثاني : من المطلقات ما لا يكون مفروضاً ولا مدخولاً بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وذكر أنه ليس لها مهر، وأن لها المتعة بالمعروف.
والقسم الثالث : من المطلقات : التي يكون مفروضاً لها، ولكن لا يكون مدخولاً بها وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى :﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ (البقرة : ٢٣٧) واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها ألبتة، فقال :﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ (الأحزاب : ٤٩).
القسم الرابع : من المطلقات : التي تكون مدخولاً بها، ولكن لا يكون مفروضاً لها، وحكم هذا القسم مذكور في قوله :﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ فَاَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ (النساء : ٢٤) أيضاً القياس الجلي دال عليه وذلك لأن الأمة مجمعة على أن الموطئة بالشبهة لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذا الحكم، فهذا التقسيم تنبيه على المقصود من هذه الآية، ويمكن أن يعبر عن هذا التقسيم بعبارة أخرى، فيقال : إن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال، ثم ذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور، فإن كان البدل مذكوراً، فإن حصل الدخول استقر كله، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى قبل هذه الآية، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى في الآية التي تجىء عقيب هذه الآية. فإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فهو هذه المطلقة التي ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية، وحكمها أنه لا مهر لها، ولا عدة عليها، ويجب عليه لها المتعة، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات، إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل، ولما نبهنا على هذا التقسيم فلنرجع إلى التفسير.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٣
أما قوله تعالى :﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ فهذا نص في أن الطلاق جائز، واعلم أن كثيراً من أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في بيان أن الجمع بين الثلاث ليس بحرام، قالوا : لأن قوله :﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ يتناول جميع أنواع التطليقات، بدليل أنه يصح استثناء الثلاث منها فيقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إلا إذا طلقتموهن ثلاث طلقات فإن هناك يثبت الجناح، قالوا : وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله :﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ يتناول جميع أنواع التطليقات، أعني حال الإفراد وحال الجمع، وهذا الاستدلال عندي ضعيف، وذلك لأن الآية دالة على الإذن في تحصيل هذه الماهية في الوجود، ويكفي في العمل به إدخاله في الوجود مرة واحدة، ولهذا قلنا : إن الأمر المطلق لا يفيد التكرار/ ولهذا قلنا : إنه إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين على المرة الواحدة فقط ؛ فثبت أن هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع، وأما الاستثناء الذي ذكروه فنقول : يشكل هذا بالأمر فإنه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحققين، مع أنه يصح أن يقال : صل إلا في الوقت الفلاني وصم إلا في اليوم الفلاني والله أعلم.