إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط، فنقول : لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها : فعل القلب وهو النية، وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك والثاني : فعل اللسان وهي القراءة، وهي لا تسقط عند الخوف، ولا يجوز له أيضاً أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث : أعمال الجوارح فنقول : أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه، وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع، لأن هذا القدر ممكن، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه، والأصح أنه يجوز، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك، فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام :"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضاً.
والجواب : أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلّم أخرى الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل.
المسألة السادسة : اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول : الخوف إما أن يكون في القتال، أو في غير القتال، أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب، أو مباح، أو محظور، أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلتحق به قتال أهل البغي، قال تعالى :﴿فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى ا أَمْرِ اللَّه ﴾ (الحجرات : ٩) وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر : أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه، فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالاً بحق الإسلام.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٨٨
إذا عرفت هذا فنقول : أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم، فإنه يجوز فيه صلاة الخوف، أما قصد أخذ ماله، أو إتلاف حاله، فهل له أن يصلي صلاة شدة / الخوف، فيه قولان : الأصح أن يجوز، واحتج الشافعي بقوله عليه السلام :"من قتل دون ماله فهو شهيد" فدل هذا على أن الدفع عن المال كالدفع عن النفس والثاني : لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم، أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف، لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة، أما الخوف الحاصل لا في القتال، كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسراً خائفاً من الحبس، عاجزاً عن بينة الإعسار، فلهم أن يصلوا هذه الصلاة، لأن قوله تعالى :﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ مطلق يتناول الكل.
فإن قيل : قوله :﴿فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة.
قلنا. هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعاً للضرر، وهذا المعنى قائم ههنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً والله أعلم.
المسألة الرابعة : روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، والجمهور على أن الواجب في الحضر أربع، وفي السفر ركعتان سواء كان في الخوف أو لم يكن، وأن قول ابن عباس متروك.
أما قوله تعالى :﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم﴾ وفيه قولان الأول : فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله :﴿حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ﴾ (البقرة : ٢٣٨) وكما بينه بشروطه وأركانه، لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل، والصلاة قد تسمى ذكراً لقوله تعالى :﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الجمعة : ٩).
والقول الثاني :﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن، طعن القاضي في هذا القول وقال : إن هذا الذكر لما كان معلقاً بشرط مخصوص، وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعاً على حد واحد، ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر، كما يلزم مع الأمن، لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة، والخوف ههنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى، فالواجب حمل قوله تعالى :﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ على ذكر يختص بهذه الحالة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٨٨
والقول الثالث : أنه دخل تحت قوله :﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ الصلاة والشكر جميعاً، لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها.