القول الثالث : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : أن معنى الآية : من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل، واحتج على قوله بوجوه أحدها : أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني : أن يكون الناسخ متأخراً / عن المنسوخ في النزول، وإذا كان متأخراً عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخراً عنه في التلاوة أيضاً، لأن هذا الترتيب أحسن، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة، فهو وإن كان جائزاً في الجملة، إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩١
الوجه الثالث : وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص، كان التخصيص أولى، وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر، لأنكم تقولون تقدير الآية : فعليهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها : فليوصوا وصية، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها : وقد أوصوا وصية لأزواجهم، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج، وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل، مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وهذا كلام واضح.
وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية، فالشرط هو قوله :﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم مَّتَـاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ فهذا كله شرط، والجزاء هو قوله :﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾ فهذا تقرير قول أبي مسلم، وهو في غاية الصحة.
المسألة الثالثة : المعتدة عن فرقة الوفاة لا نفقة لها ولا كسوة، حاملاً كانت أو حائلاً، وروي عن علي عليه السلام وابن عمر رضي الله عنهما، أن لها النفقة إذا كانت حاملاً، وعن جابر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا لا نفقة لها حسبها الميراث، وهل تستحق السكنى فيه قولان أحدهما : لا تستحق السكنى وهو قول علي عليه السلام وابن عباس وعائشة، ومذهب أبي حنيفة واختيار المزني والثاني : تستحق وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والثوري وأحمد، وبناء القولين على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قتل زوجها قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما تركني في منزل يملكه فقال عليه السلام : نعم فانصرفت حين إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، واختلفوا في تنزيل هذا الحديث، قيل لم يوجب في الابتداء، ثم أوجب فصار الأول منسوخاً، وقيل : أمرها بالمكث في بيتها أمراً على سبيل / الاستحباب لا على سبيل الوجوب، واحتج المزني رحمه الله على أنه لا سكنى لها، فقال : أجمعنا على أنه لا نفقة لها، لأن الملك انقطع بالموت، فكذلك السكنى، بدليل أنهم أجمعوا على أن من وجب له نفقة وسكنى من والد وولد على رجل فمات انقطعت نفقتهم وسكناهم، لأن ماله صار ميراثاً للورثة، فكذا ههنا.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩١
أجاب الأصحاب فقالوا : لا يمكن قياس السكنى على النفقة لأن المطلقة الثلاث تستحق السكنى بكل حال ولا تستحق النفقة لنفسها عند المزني ولأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع ولا يمكن ههنا، وأما السكنى فوجبت لتحصين النساء وهو موجود ههنا فافترقا.
إذا عرفت هذا فنقول : القائلون بأن هذه الآية منسوخة لا بد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة، وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى، أما وجوب النفقة فقد صار منسوخاً، وأما وجوب السكنى فهل صار منسوخاً أم لا ؟
والكلام فيه ما ذكرناه.