المسألة الأولى : الآية دالة على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا فوجب القطع به، وذلك لأنه في نفسه جائر والصادق أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه، أما الإمكان فلأن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن، وإلا لما وجد أولاً، واحتمال تلك الأجزاء للحياة ممكن وإلا لما وجد أولاً، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الإمكان، وأما إن الصادق قد أخبر عنه ففي هذه الآية، ومتى أخبر الصادق عن وقوع ما ثبت في العقل إمكان وقوعه وجب القطع به.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : إحياء الميت فعل خارق للعادة، ومثل هذا لا يجوز من الله تعالى إظهاره إلا عندما يكون معجزة لنبي، إذ لو جاز ظهوره لا لأجل أن يكون معجزة لنبي لبطلت دلالته على النبوة، وأما عند أصحابنا فإنه يجوز إظهار خوارق العادات لكرامة الولي، ولسائر الأغراض، فكأن هذا الحصر باطلاً، ثم قالت المعتزلة : وقد روي أن هذا الإحياء إنما وقع في زمان حزقيل النبي عليه السلام ببركة دعائه، وهذا يحقق ما ذكرناه من أن مثل هذا لا يوجد إلا ليكون معجزة للأنبياء عليهم السلام، وقيل : حزقيل هو ذو الكفل، وإنما سمي بذلك لأنه تكفل بشأن سبعين نبياً وأنجاهم من القتل، وقيل : إنه عليه السلام مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجباً، فأوحى الله تعالى إليه : إن أردت أحييتهم وجعلت ذلك الإحياء آية لك، فقال : نعم فأحياهم الله تعالى بدعائه.
المسألة الثالثة : أنه قد ثبت بالدلائل أن معارف المكلفين تصير ضرورية عند القرب من الموت : وعند معاينة الأهوال والشدائد، فهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم لا يخلو إما أن يقال إنهم عاينوا الأهوال والأحوال التي معها صارت معارفهم ضرورية، وإما ما شاهدوا شيئاً من تلك الأهوال بل الله تعالى أماتهم بغتة، كالنوم الحادث من غير مشاهدة الأهوال البتة، فإن كان الحق هو الأول، فعندما أحياهم يمتنع أن يقال : إنهم نسوا تلك الأهوال ونسوا ما عرفوا به ربهم بضرورة العقل، لأن الأحوال العظيمة لا يجوز نسيانها مع كمال العقل، فكان يجب أن تبقى تلك المعارف الضرورية معهم بعد الإحياء، وبقاء تلك المعارف الضرورية يمنع من صحة التكليف، كما أنه لا يبقى التكليف في الآخرة، وإما أن يقال : إنهم بقوا بعد الإحياء غير مكلفين، وليس في الآية ما يمنع منه، أو يقال : إن الله تعالى حين أماتهم ما أراهم شيئاً من الآيات العظيمة التي تصير معارفهم عندها ضرورية، وما كان ذلك الموت كموت سائر المكلفين الذين يعاينون الأهوال عند / القرب من الموت، والله أعلم بحقائق الأمور.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٥
المسألة الرابعة : قال قتادة : إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم، وهذا القول فيه كلام كثير وبحث طويل.
أما قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ ففيه وجوه أحدها : أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين أماتهم بسبب أنه أحياهم، وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية، فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي وثانيها : أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور، فلما نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم، وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد، فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب، ويستحقون الثواب، فكان ذكر هذه القصة فضلاً من الله تعالى وإحساناً في حق هؤلاء المنكرين وثالثها : أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان، وتزيل عن قلبه الخوف من الموت، فكان ذكر هذه القصة سبباً لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم، فكان ذكر هذه القصة فضلاً وإحساناً من الله تعالى على عبده، ثم قال :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ وهو كقوله :﴿فَأَبَى ا أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا﴾ (الفرقان : ٥٠).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٥
٤٩٨
فيه قولان الأول : أن هذا خطاب للذين أحيوا، قال الضحاك : أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد.
واعلم أن القول لا يتم إلا بإضمار محذوف تقديره : وقيل لهم قاتلوا.


الصفحة التالية
Icon