والقول الثاني : وهو اختيار جمهور المحققين : أن هذا استئناف خطاب للحاضرين، يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت، وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت، كما قال في قوله :﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا﴾ (الأحزاب : ١٦) فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين، إما في العاجل الظهور على العدو، أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم، والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
أما قوله تعالى :﴿فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فالسبيل هو الطريق، وسميت العبادات سبيلاً إلى الله تعالى / من حيث أن الإنسان يسلكها، ويتوصل إلى الله تعالى بها، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين، فكان طاعة، فلا جرم كان المجاهد مقاتلاً في سبيل الله ثم قال :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، وفي تنفير الغير عنه، وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٨
٤٩٨
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ثم أردفه بقوله :﴿مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ اختلف المفسرون فيه على قولين ﴿الاوَّلِ ﴾ أن هذه الآية متعلقة بما قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة، فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثم أكد تعالى ذلك بقوله :﴿مَّن ذَا الَّذِى﴾ وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله، والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق.
والقول الثاني : أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال : المراد من هذا القرض إنفاق المال، ومنهم من قال : إنه غيره، والقائلون بأنه إنفاق المال لهم ثلاثة أقوال الأول : أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة، وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين الأول : أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعاً.
الحجة الثانية : سبب نزول الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في أبي الدحداح قال : يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة ؟
قال : نعم، قال : وأم الدحداح معي ؟
قال : نعم، قال : والصبية معي ؟
قال : نعم، فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تسمى الحنينة، قال : فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة، وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح : بارك الله لك فيما اشتريت، فخرجوا منها وسلموها، فكان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : كم من نخلة رداح، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح.
إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعاً لا واجباً.
والقول الثاني : أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله، واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية :﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وذلك كالزجر، وهو إنما يليق بالواجب.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٨
والقول الثالث : وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين، كما أنه داخل تحت قوله :﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ﴾ (البقرة : ٢٦١) من قال : المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال، قالوا : روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال القاضي : وهذا بعيد، لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة ثم قال : ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة، إلا أن نقول : الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه لو كان قادراً لأنفق وأعطى فحينئذٍ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة".
المسألة الثانية : اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز، قال الزجاج : إنه حقيقة، وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه، تقول العرب : لك عندي قرض حسن وسيء، والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه، قال أمية بن أبي الصلت :
كل امرىء سوف يجزى قرضه حسنا
أو سيئاً أو مديناً كالذي دانا
ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع/ ومنه القراض، وانقرض القوم إذا هلكوا، وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها.