والقول الثاني : أن لفظ القرض ههنا مجاز، وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئاً ليرجع إليه مثله وههنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه أحدها : أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها : أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضعف وثالثها : أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا هذا المال المأخوذ ملك لله، ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضاً، والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة، ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء، فهو يطلب منا القرض، وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم، لأن الغالب عليهم التشبيه، ويقولون : إن معبودهم شيخ، قال القاضي : من يقول في معبوده مثل هذا القول / لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٨
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى :﴿مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام.
قلنا : إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر.
أما قوله تعالى :﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الواحدي : القرض في هذه الآية اسم لا مصدر، ولو كان مصدراً لكان ذلك إقراضاً.
المسألة الثانية : كون القرض حسناً يحتمل وجوهاً أحدها : أراد به حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام، لأن مع الشبهة يقع الاختلاط، ومع الاختلاط ربما قبح الفعل وثانيها : أن لا يتبع ذلك الإنفاق مناً ولا أذى وثالثها : أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى، لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب.
أما قوله تعالى :﴿فَيُضَـاعِفَه لَه ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله :﴿فَيُضَـاعِفَه ﴾ أربع قراءات أحدها : قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي ﴿فَيُضَـاعِفَه ﴾ بالألف والرفع والثاني : قرأ عاصم ﴿فَيُضَـاعِفَه ﴾ بألف والنصب والثالث : قرأ ابن كثير بالتشديد والرفع بلا ألف والرابع : قرأ ابن عامر بالتشديد والنصب.
فنقول : أما التشديد والتخفيف فهما لغتان، ووجه الرفع العطف على يقرض، ووجه النصب أن يحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ لأن المعنى يكون قرضاً فيضاعفه، والاختيار الرفع لأن فيه معنى الجزاء، وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعاً.
المسألة الثانية : التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر، وفي الآية حذف، والتقدير : فيضاعف ثوابه.
أما قوله تعالى :﴿لَه ا أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ فمنهم من ذكر فيه قدراً معيناً، وأجود ما يقال فيه : إنه القدر المذكور في قوله تعالى :﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ (البقرة : ٢٦١) فيقال يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد، بل قال بعده :﴿وَاللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ (البقرة : ٢٦١).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٨
والقول الثاني : وهو الأصح واختيار السدي : أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو ؟
وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود.
أما قوله تعالى :﴿مَّن ذَا الَّذِى﴾ ففي بيان أن هذا كيف يناسب ما تقدم وجوه أحدها :/ أن المعنى أنه تعالى لما كان هو القابض الباسط، فإن كان تقدير هذا الذي أمر بإنفاق المال الفقر فلينفق المال في سبيل الله، فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الفقر، وإن كان تقديره الغنى فلينفق فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الغنى والسعة وبسط اليد، فعلى كلا التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى وثانيها : أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا، وبقي اعتماده على الله، فحينئذٍ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى وثالثها : أنه تعالى يوسع عن عباده ويقتر، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم، لئلا يبدل السعة الحاصلة لكم بالضيق ورابعها : أنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم عليها أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه وإعانته، فقال :﴿مَّن ذَا الَّذِى﴾ يعني يقبض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة، ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة، ثم قال :﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ والمراد به إلى حيث لا حاكم ولا مدبر سواه، والله أعلم.
القصة الثانية
قصة طالوت
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٨
٥٠١
الملأ الأشراف من الناس، وهو اسم الجماعة، كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، قال الشاعر :
وقال لها الأملاء من كل معشر