وخير أقاويل الرجال سديدها
وأصلها من الملء، وهم الذين يملأون العيون هيبة ورواء، وقيل : هم الذين يملأون المكان إذا حضروا، وقال الزجاج : الملأ الرؤساء، سموا بذلك لأنهم يملأون القلوب بما يحتاج إليه، من قولهم : ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملىء.
قوله تعالى :﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا﴾ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (البقرة : ١٩٠) ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل، وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه، ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة، وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى.
المسألة الثانية : لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل، سواء علمنا أن النبي من كان من أولئك، وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئاً من ذلك، لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف، وإنما يعلم من ذلك النبي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود، وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن، ومنهم من قال : إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف، والدليل عليه قوله تعالى :﴿مِنا بَعْدِ مُوسَى ﴾ وهذا ضعيف لأن قوله :﴿مِنا بَعْدِ مُوسَى ﴾ كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان، ومنهم من قال : كان اسم ذلك النبي أشمويل من بني هرون واسمه بالعربية : إسماعيل، وهو قول الأكثرين، وقال السدي : هو شمعون، سمته أمه بذلك، لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولداً فاستجاب الله تعالى دعاءها، فسمته شمعون، يعني سمع دعاءها فيه، والسين تصير شيناً بالعبرانية، وهو من ولد لاوى بن يعقوب عليه السلام.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠١
المسألة الثالثة : قال وهب والكلبي : إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل، والخطايا عظمت فيهم، ثم غلب عليهم عدو لهم فسبى كثيراً من ذراريهم، فسألوا نبيهم ملكاً تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم، وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل، وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء، ويجري الأحكام، ونبي يطيعه الملك، ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخبر من عند ربهم.
أما قوله :﴿نُّقَـاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّه ﴾ فاعلم أنه قرىء ﴿نُّقَـاتِلْ﴾ بالنون والجزم على الجواب، وبالنون والرفع على أنه حال، أي ابعثه لنا مقدرين القتال، أو استئناف كأنه قيل : ما تصنعون بالملك، / قالوا نقاتل، وقرىء بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لقوله :﴿مَلِكًا ﴾ أما قوله :﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَـاتِلُوا ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحده ﴿عَسَيْتُمْ﴾ بكسر السين ههنا، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلّم، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون : هو عسى بكذا وهذا يقوي ﴿عَسَيْتُمْ﴾ بكسر السين، ألا ترى أن عسى بكذا، مثل حري وشحيح وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز ﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾ أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين الأول : أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة، وليست الياء من ﴿عَسَى ﴾ كذلك، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى.
والجواب الثاني : هب أن القياس يقتضي جواز ﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾ إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر.
المسألة الثانية : خبر ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ وهو قوله :﴿أَلا تُقَـاتِلُوا ﴾ والشرط فاصل بينهما، والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل ﴿هَلْ﴾ مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير، وثبت أن المتوقع كائن له، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ معناه التقرير، ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا :﴿وَمَا لَنَآ أَلا نُقَـاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهذا يدل على ضمان قوي خصوصاً واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك، وهو قولهم :﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـارِنَا وَأَبْنَآاـاِنَا ﴾ لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠١
فإن قيل : المشهور إنه يقال : مالك تفعل كذا ؟
ولا يقال : مالك أن تفعل كذا ؟
قال تعالى :﴿مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ (نوح : ١٣) وقال :﴿وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّه ﴾ (الحديد : ٨).