[ وانظر إلى حمارك ] أي كيف تفرقت عظامه ونخرت وصار هيكلا من البلى
[ ولنجعلك آية للناس ] أي فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه، ولنجعلك معجزة
ظاهرة تدل على كمال قدرتنا
[ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ] أي تأمل في عظام حمارك النخرة،
كيف نركب بعضها فوق بعض، وأنت تنظر، ثم نكسوها لحما بقدرتنا ؟
[ فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ] أي فلما رأى الآيات الباهرات،
قال : أيقنت وعلمت علم مشاهدة أن الله على كل شيء قدير
[ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى ] وهذه هي القصة الثالثة وفيها الدليل
الحسي على الإعادة بعد الفناء، والمعنى : اذكر حين طلب إبراهيم من ربه أن يريه
كيف يحي الموتى ؟ سأل الخليل عن (الكيفية) مع إيمانه الجازم بالقدرة الربانية،
فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان، ولهذا خاطبه ربه بقوله
[ قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ] أي أو لم تصدق بقدرتي على الإحياء ؟
قال بلى آمنت، ولكن أردت أن أزداد بصيرة وسكون قلب برؤية ذلك
[ قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ] أى خذ أربعة طيور فضمهن اليك ثم اقطعهن،
ثم اخلط بعضهن بببعض، حتى يصبحن كتلة واحدة
[ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ] أى فرق أجزاءهن على رءوس الجبال
[ ثم ادعهن يأتينك سعيا ] أي نادهن يأتينك مسرعات، قال مجاهد : كانت (طاووسا،
وغرابا، وحمامة، وديكا)، فذبحهن ثم فعل بهن ما فعل، ثم دعاهن فأتين مسرعات
[ واعلم أن الله عزيز حكيم ] أي لا يعجزه شيء عما يريده، حكيم في تدبيره وصنعه.
قال المفسرون : ذبحهن ثم قطعهن ثم خلط بعضهن ببعض حتى اختلط ريشها ودماؤها
ولحومها، ثم أمسك برءوسها عنده وجزأها أجزاء على الجبال، ثم دعاهن كما أمره
تعالى، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم،
حتى عادت طيرا كما كانت وأتينه يمشين ليكون أبلغ له في الرؤية لما سأل. ذكره
ابن كثير في تفسيره.
البلاغة :
١- [ ألم تر ] الرؤية قلبية والاستفهام للتعجيب أي ألم تعلم وتوقن.
٢- [ يحيي ويميت ] التعبير بالمضارع يفيد التجدد والاستمرار، والصيغة تفيد القصر
[ ربي الذي يحيي ويميت ] لأن المبتدأ والخبر وردا معرفتين والمعنى أنه وحده
سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وبين كلمتي " يحيي " و " يميت " طباق وهو من المحسنات
البديعية وكذلك بين لفظ " المشرق " و " المغرب ".
٣- [ فبهت الذي كفر ] التعبير بالنص السامي يشعر بالعلة، وأن سبب الحيرة هو كفره،
ولو قال : فبهت الكافر لما أفاد ذلك المعنى الدقيق.
٤- [ أني يحيي هذه الله بعد موتها ] موت القرية هو (موت السكان) فهو من قبيل
إطلاق المحل وإرادة الحال، ويسمى " المجاز المرسل ".
٥- [ ثم نكسوها لحما ] نسترها به كما يستر الجسد باللباس، قال أبو حيان : الكسوة
حقيقة هي ما وراء الجسد من الثياب، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى
العظم وهي استعارة في غاية الحسن.
الفوائد :
الأولى : قال مجاهد : ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان، وكافران،
فالمؤمنان :" سليمان بن داود " و " ذو القرنين " والكافران " النمرود " و " بختنصر "
الذي خرب بيت المقدس.
الثانية : لما رأى الخليل تجاهل الطاغية معنى (الحياة والموت) وسلوكه التلبيس
والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوابه من الجلاء بحيث لا يخفى على أحد، انتقل
إبراهيم إلى حجة أخرى، لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها
بمكابرة أو مشاغبة فقال [ إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ]
فلوى خليل الله عنق الكافر، حتى أراه عجزه وأخرس لسانه!!.
الثالثة : سؤال الخليل ربه بقوله [ كيف تحي الموتى ] ليس عن شك في قدرة الله،