[ إن الله على كل شئ قدير ] أي إنه تعالى قادر على كل شئ، لا يعجزه أحد فى الأرض ولا فى السماء، قال ابن جرير : إنما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شئ فى هذا الموضع، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر.
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلى :
أولا : المبالغة فى تكذيب المنافقين فى دعوى الإيمان [ وما هم بمؤمنين ] وكان الأصل أن يقول :" وما آمنوا " ليطابق قوله [ من يقول آمنا ] ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم، لإخراج ذواتهم من عداد المؤمنين، وأكده بالباء للمبالغة فى نفي الإيمان عنهم.
ثانياً : الاستعارة التمثيلية [ يخادعون الله ] شبه حالهم مع ربهم فى إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، بحال رعية تخادع الملك، واستعير اسم المشبه به للمشبه بطريق الاستعارة، أى يعملون عمل المخادع الذى يضحك على نفسه.
ثالثا : صيغة القصر [ إنما نحن مصلحون ] وهذا من نوع " قصر الموصوف على الصفة " أى نحن مصلحون ليس إلا.
رابعا : الكناية اللطيفة [ فى قلوبهم مرض ] المرض فى الأجسام حقيقة وقد كنى به عن النفاق لأن المرض فساد للبدن، والنفاق فساد للقلب.
خامسا : تنويع التأكيد [ ألا إنهم هم المفسدون ] جاءت الجملة مؤكدة بأربع تأكيدات [ ألا ] التى تفيد التنبيه، و[ إن ] التى هى للتأكيد، وضمير الفصل [ هم ] ثم تعريف الخبر [ المفسدون ] ومثلها فى التأكيد [ ألا إنهم هم السفهاء ] وهذا رد من الله تعالى بأبلغ رد وأحكمه.
سادسا : المشاكلة
[ الله يستهزئ بهم ] سمى الجزاء على الاستهزاء استهزاء بطريق (المشاكلة) وهى الاتفاق فى اللفظ، مع الاختلاف فى المعنى.
سابعاً : الاستعارة التصريحية [ اشتروا الضلالة بالهدى ] المراد استبدلوا الغي بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم، فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحاً بقوله :[ فما ربحت تجارتهم ] وهذا هو الترشيح الذى يبلغ بالاستعارة الذروة العليا من البيان.
ثامنا : التشبيه التمثيلى [ مثلهم كمثل الذى استوقد نارا ] وكذلك فى [ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ] شبه فى المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وفى المثال الثانى شبه الإسلام بالمطر، لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء، وشبه شبهات الكفار بالظلمات، وما فى القرآن من الوعد والوعيد بالرعد والبرق... الخ ((قال الفخر الرازي : والتشبيه ههنا فى غاية الصحة، لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور، ووقعوا فى حيرة عظيمة، لأنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين، لخسران نفسه أبد الآبدين)).
تاسعاً : التشبيه البليغ [ صم بكم عمي ] أي هم كالصم، وكالبكم وكالعمى، في عدم الاستفادة من هذه الحواس، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغا، كقول القائل : هو بدر، وقول الشاعر :
كأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهم كوكب
عاشرا : المجاز المرسل [ يجعلون أصابعهم فى آذانهم ] وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أى رؤوس أصابعهم، لأن دخول الأصبع كلها فى الأذن لا يمكن، ففيه مجاز بالجزئية.
الحادى عشر : توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهذا له وقع فى الأذن حسن، وأثر فى النفس رائع، مثل [ بما كانوا يكذبون ] [ إنما نحن مصلحون ] [ ويمدهم فى طغيانهم يعمهون ] إلخ وهو من المحسنات البديعية.
الفوائد :
الأولى : الغاية من ضرب المثل : تقريب البعيد، وتوضيح الغامض حتى يصبح كالأمر المشاهد المحسوس، وللأمثال تأثير عجيب فى النفس، كما قال تعالى [ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ]


الصفحة التالية
Icon