[ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ] أي فلما جبنوا حرضهم رجلان من النقباء، ممن يخاف أمر الله، ويخشى عقابه، وفيهما الصلاح واليقين، قائلين :
[ ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموهم فإنكم غالبون ] أي قالا لهم : لا يهولنكم عظم أجسامهم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، فإذا دخلتم عليهم باب المدينة، غلبتموهم بإذن الله
[ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ] أي اعتمدوا على الله، فإنه ناصركم إن كنتم حقا مؤمنين
[ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ] وهذا إفراط منهم في العصيان، مع سوء الأدب، بعبارة تفضي إلى الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الصحابة الأبرار، الذين قالوا لرسول الله (ص) : لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل، ولكن نقول لك : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ؟ !
[ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ] أي قال موسى حينذاك، معتذرا إلى الله متبرءا من مقالة السفهاء : يا رب لا أملك قومي، لا أملك إلا نفسي وأخي هارون، فافصل بيننا وبين الخارجين عن طاعتك بحكمك العادل
[ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ] استجاب الله دعاءه، وعاقبهم في التيه أربعين سنة، والمعني : قال الله لموسى : إن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها مدة أربعين سنة يسيرون متحيرين في الأرض، ولا يهتدون إلى الخروج منها
[ فلا تأس على القوم الفاسقين ] أي لا تحزن عليهم فإنهم فاسقون مستحقون للعقاب، قال في التسهيل : روي أنهم كانوا يسيرون الليل كله، فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه.
البلاغة :
١- [ أن يبسطوا إليكم أيديهم ] بسط الأيدي كناية عن البطش والفتك، وكف الأيدى كناية عن المنع والحبس، فهو من الكنايات اللطيفة.
٢- [ وبعثنا منهم ] فيه التفات عن الغيبة إلى المتكلم، ومقتضى الظاهر وبعث منهم، وإنما التفت اعتناء بشأنه.
٣- [ ويخرجهم من الظلمات إلى النور ] فيه استعارة، حيث استعار الظلمات للكفر، والنور للإيمان، وهو من لطيف أنواع الاستعارة.
٤- [ وجعلكم ملوكاً ] فيه تشبيه بليغ أي كالملوك في رغد العيش وراحة البال، فحذف أداة الشبه ووجه الشبه، فلا سمي بالتشبيه البليغ.
٥- الطباق بين [ يغفر.. ويعذب ].
٦- [ أنعم الله عليهما ] جملة اعتراضية لبيان فضل الله على عباده الصالحين.
الفوائد :
الأولى : إنما سميت الأرض " المقدسة " أي المطهرة، لسكنى الأنبياء المطهرين فيها، فشرفت وطهرت بهم، فالظرف طاب بالمظروف.
الثانية : قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فسكت ولم يرد عليه، فتلا عليه الصوفي هذه الآية [ قل فلم يعذبكم بذنوبكم ] ففي الآية دليل على أن المحب لا يعذب حبيبه، ذكره الحافظ ابن كثير.
قال الله تعالى :[ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق.. إلى.. ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ] من آية (٢٧) إلى نهاية آية (٤٠).
المناسبة :
لما ذكر تعالى تمرد بني إسرائيل، وعصيانهم لأمر الله، في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم، وعصيان " قابيل " أمر الله، وإقدامه على قتل النفس البريئة التى حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان، شأن أول عاص لله في الأرض، فطبيعة الشر فيهم مستقاة من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والطغيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قطاع الطريق والسراق، الخارجين على أمن الدولة، والمفسدين في الأرض بأنواع البغي والفساد.
اللغة :
[ قربانا ] القربان ما يتقرب به إلى الله
[ تبوء ] ترجع يقال : باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزل
[ فطوعت ] سولت وسهلت، يقال : طاع الشيء إذا سهل وانقاد، وطوعه له أي سهله
[ يبحث ] يفتش وينقب
[ سوأة ] السوأة : العورة