[ كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ] وجعلت أقل من الذباب وأخس قدرا [ لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ] والعجب منهم كيف أنكروا ذلك ؟ وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم، والطيور، والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم سائرة فى حواضرهم وبواديهم.
الثانية : قدم الإضلال على الهداية [ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ] ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعاً يسوءهم ويفت فى أعضادهم، وأوثرت صيغة الاستقبال إيذاناً بالتجدد والاستمرار، أفاده العلامة أبو السعود.
الثالثة : قال ابن جزي فى التسهيل : وهذه الآية [ خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ] تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله تعالى :[ والأرض بعد ذلك دحاها ] ظاهره خلاف ذلك، والجواب من وجهين : أحدهما أن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر تكون [ ثم ] لترتيب الأخبار.
قال الله تعالى :
[ وإذا قال ربك للملائكة... إلى... وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ] من آية (٣٠) إلى نهاية آية (٣٣).
المناسبة :
لما امتن تعالى على العباد بنعمة الخلق والإيجاد وأنه سخر لهم ما في الأرض جميعا، وأخرجهم من العدم إلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتن عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة، وإسكانه دار الكرامة، وإسجاد الملائكة تعظيما لشأنه، ولا شك أن الإحسان على الأصل إحسان إلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، ولهذا ناسب أن يذكرهم بذلك، لأنها من وجوه النعم التي أنعم بها عليهم.
اللغة :
[ إذ ] ظرف زمان منصوب بفعل محذوف تقديره : أذكر حين أو اذكر وقت، وقد يصرح بالمحذوف كقوله تعالى [ واذكروا إذ أنتم قليل ] قال المبرد : إذا جاء " إذ " مع مستقبل كان معناه ماضيا نحو قوله [ وإذ يمكر بك ] معناه إذ مكروا، وإذا جاء " إذا " مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله [ فإذا جاءت الطامة ] و[ إذا جاء نصر الله ] أي يجيء.
[ خليفة ] الخليفة : من يخلف غيره وينوب منابه، (فعيل) بمعنى (فاعل) والتاء للمبالغة، سمي خليفة لأنه مستخلف عن الله عز وجل في إجراء الأحكام وتنفيذ الأوامر الربانية قال تعالى [ يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض ] الآية
[ يسفك ] السفك : الصب والإراقة، ولا يستعمل إلا فى الدم قال فى المصباح : وسفك الدم : أراقه، وبابه ضرب.
[ نسبح ] التسبيح : تنزيه الله وتبرئته عن السوء، وأصله من السبح وهو الجري والذهاب قال تعالى :[ إن لك فى النهار سبحا طويلا ] فالمسبح جار فى تنزيه الله تعالى
[ ونقدس ] التقديس : التطهير ومنه الأرض المقدسة وروح القدس، وضده التنجيس، وتقديس الله معناه : تمجيده وتعظيمه وتطهير ذكره عما لا يليق به، وفي صحيح مسلم أن رسول الله (ص) كان يقول في ركوعه وسجوده (سبوح قدوس، رب الملائكة والروح)
[ أنبئوني ] أخبروني، والنبأ : الخبر الهام ذو الفائدة العظيمة قال تعالى :[ قل هو نبأ عظيم ]
[ وتبدون ] تظهرون
[ تكتمون ] تخفون، ومنه كتم العلم أي إخفاؤه.
التفسير :
[ وإذا قال ربك للملائكة ] أي اذكر يا أيها الرسول واقصص على قومك ذلك
[ إني جاعل في الأرض خليفة ] أي خالق فى الأرض ومتخذ فيها خليفة، هو آدم أبو البشر، يكون له ذرية ونسل، يخلف بعضهم بعضا، قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل
[ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ] أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام : كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد فى الأرض بالمعاصي
[ ويسفك الدماء ] أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء !!
[ ونحن نسبح بحمدك ] أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك
[ ونقدس لك ] أي نعظم أمرك ونطهر ذكرك مما نسبه أليك الملحدون
[ قال إني أعلم ما لا تعلمون ] أي أعلم من المصالح ما هو خفي عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها