من بداية هذه الآية إلى آية (١٤٢) ورد الكلام عن بني إسرائيل، وقد تحدث القرآن الكريم بالإسهاب عنهم فيما يقرب من جزء كامل، وذلك يدل على عناية القرآن بكشف حقائق اليهود، وإظهار ما انطوت عليه نفوسهم الشريرة، من خبث، وكيد، ومكر، حتى يحذرهم المسلمون، أما وجه المناسبة فإن الله تعالى لما دعا البشر إلى عبادته وتوحيده، وأقام للناس الحجج الواضحة على وحدانيته ووجوده، وذكرهم بما أنعم به على أبيهم آدم عليه السلام، دعا بني إسرائيل خصوصا – وهم اليهود – إلى الإيمان بخاتم الرسل، وتصديقه فيما جاء به عن الله، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة، وقد تفنن القرآن فى مخاطبتهم، فتارة دعاهم بالملاطفة، وتارة بالتخويف، وتارة بالتذكير بالنعم عليهم وعلى آبائهم، وأخرى بإقامة الحجة والتوبيخ على سوء أعمالهم، وهكذا انتقل من التذكير بالنعم العامة على البشرية، إلى التذكير بالنعم الخاصة على بني إسرائيل.
اللغة :
[ إسرائيل ] اسم أعجمي ومعناه : عبد الله، وهو اسم [ يعقوب ] عليه السلام، والد يوسف الصديق، وإليه ينتسب اليهود، وقد صرح به فى آل عمران [ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ] الآية
[ أوفوا ] الوفاء : الإتيان بالشيء على التمام والكمال، يقال أوفى ووفى أي أداه وافيا تاما.
[ تلبسوا ] اللبس : الخلط، تقول العرب : لبست الشيء بالشيء خلطته، والتبس به اختلط، قال تعالى :[ وللبسنا عليهم ما يلبسون ] وفي المصباح : لبس الثوب من باب تعب لبسا بضم اللام، ولبست عليه الأمر لبسا من باب ضرب خلطته، والتبس الأمر : أشكل
[ الزكاة ] مشتقة من زكا الزرع يزكو أي نما، لأن إخراجها يجلب البركة، أو هي من الزكاة أي الطهارة لأنها تطهر المال قال تعالى :[ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ] الأية.
التفسير :
[ يا بني إسرائيل ] أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب
[ اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ] اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى أبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى
[ وأوفوا بعهدي ] أي أدوا ما عاهدتموني عليه من الإيمان والطاعة
[ أوف بعهدكم ] بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب
[ وإياي فارهبون ] أي اخشوني دون غيري
[ وآمنوا بما أنزلت ] من القرآن العظيم
[ مصدقا لما معكم ] أي من التوراة فى أمور التوحيد والنبوة
[ ولا تكونوا أول كافر به ] أي أول من كفر من أهل الكتاب، فحقكم أن تكونوا أول من آمن، وأول المسارعين إلى الإيمان
[ ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا ] أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية
[ وإياي فاتقون ] أي خافون دون غيرى
[ ولا تلبسوا الحق بالباطل ] أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله، بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما فى التوراة بالبهتان الذي تفترونه
[ وتكتمون الحق ] أي ولا تخفوا ما فى كتابكم من أوصاف محمد (ص)
[ وأنتم تعلمون ] أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان
[ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ] أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، وفي زمرة أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
البلاغة :
أولا : فى إضافة النعمة إليه سبحانه [ نعمتي ] إشارة إلى عظم قدرها، وسعة برها، وحسن موقعها، لأن الإضافة تفيد التشريف كقوله :[ بيت الله ] و[ ناقة الله ].
ثانيا : قوله [ ولا تشتروا بآياتي ] الشراء هنا على سبيل الاستعارة كما تقدم في قوله :[ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ].
ثالثا : تكرير الحق فى قوله :[ تلبسوا الحق ] وقوله :[ وتكتموا الحق ] لزيادة تقبيح المنهي عنه، إذ في التصريح ما ليس فى الضمير من التأكيد، ويسمى هذا (بالإطناب)، وهو من المحسنات البديعية.