[ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ] أي فيما ذكر من العذاب المهين، من الذبح والاستحياء، محنة واختبار عظيم لكم من جهته تعالى، بتسليطهم عليكم، ليتميز البر من الفاجر
[ وإذ فرقنا بكم البحر ] أي اذكروا أيضا إذ فلقنا لكم البحر، وصار لكم فيه طرق عديدة، فمشيتم عليها
[ فأنجينا كم وأغرقنا آل فرعون ] أي نجيناكم من الغرق، وأغرقنا فرعون وقومه الطغاة المتجبرين
[ وأنتم تنظرون ] أي وأنتم تشاهدون ذلك، فقد كان إغراقهم آية باهرة من آيات الله، وعبرة للمعتبرين في إنجاء أوليائه وإهلاك أعدائه
[ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ] أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة، وكان ذلك بعد نجاتكم وإهلاك فرعون
[ ثم اتخذتم العجل ] أي عبدتم العجل
[ من بعده ] أي بعد غيبته عنكم، حين ذهب لميقات ربه
[ وأنتم ظالمون ] أي معتدون فى تلك العبادة ظالمون لأنفسكم
[ ثم عفونا عنكم ] أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة
[ من بعد ذلك ] أي من بعد ذلك الاتخاذ المتناهي فى القبح
[ لعلكم تشكرون ] أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم، وتستمروا بعد ذلك على الطاعة
[ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان ] أي واذكروا نعمتي أيضا حين أعطيت موسى (التوراة) الفارقة بين الحق والباطل، وأيدته بالمعجزات
[ لعلكم تهتدون ] أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بمقتضى ما فيها من أحكام، شرعها الله لسعادتكم وفلاحكم! ثم بين تعالى كيفية وقوع العفو المذكور فى الآية السابقة [ ثم عفونا عنكم ] بقوله :
[ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم ] أي اذكروا حين قال موسى لقومه، بعدما رجع من الموعد الذى وعده ربه، فرآهم قد عبدوا العجل : يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم
[ باتخاذكم العجل ] أي بعبادتكم للعجل
[ فتوبوا إلى بارئكم ] أي توبوا إلى من خلقكم بريئا من العيب والنقصان
[ فاقتلوا أنفسكم ] أي ليقتل البريء منكم المجرم
[ ذلكم ] أي القتل
[ خير لكم عند بارئكم ] أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره، خير لكم عند الخالق العظيم
[ فتاب عليكم ] أي قبل توبتكم
[ إنه هو التواب الرحيم ] أي عظيم المغرفة، واسع التوبة.
البلاغة :
أولا : قال ابن جزي :[ يسومونكم سوء العذاب ] أي يلزمونكم به وهو استعارة من السوم في البيع، وفسر سوء العذاب بقوله :[ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ] ولذلك لم يعطفه هنا بالواو، وعطفه في إبراهيم [ ويذبحون أبناءكم ] لأنه هناك نوع العذاب، أي أنه نوع آخر غير الذبح.
ثانيا : التنكير في كل من [ بلاء ] و[ عظيم ] للتفخيم والتهويل.
ثالثا : صيغة المفاعلة في قوله :[ وإذ واعدنا ] ليست على بابها، لأنها لا تفيد المشاركة من الطرفين، وإنما هي بمعنى الثلاثي [ وإذ وعدنا ].
رابعاً : قال أبو السعود :[ فتوبوا إلى بارئكم ] التعرض بذكر البارئ للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها، ومن الغواية منتهاها، حيث تركوا عبادة العليم الحكيم، الذي خلقهم بلطيف حكمته، إلى عبادة البقر الذي هو مثل فى الغباوة.. أقول : لا عجب فى ذلك، فالجنس يألفه الجنس.
الفوائد :
الأولى : العطف فى قوله :[ الكتاب والفرقان ] هو من باب عطف الصفات بعضها على بعض، لأن الكتاب هو التوراة، والفرقان هو التوراة أيضا، وحسن العطف لكون معناه أنه أتاه إياه جامعاً بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل.
الثانية : سبب تقتيل الذكور من بنى إسرائيل ما رواه المفسرون (أن فرعون رأى فى منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس، وأحاطت بمصر، وأحرقت كل قبطي بها، ولم تتعرض لبني إسرائيل، فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا : يولد في بني إسرائيل غلام يكون هلاكك وزوال ملكك على يده، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل.