الثالثة : قال القشيري : من صبر في الله، على قضاء الله، عوضه الله صحبة أوليائه الصالحين، هؤلاء بنو إسرائيل، صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه، فجعل الباري منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين.
قال الله تعالى :[ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهة.. إلى.. بما كانوا يفسقون ] من آية (٥٥) إلى نهاية آية (٥٩).
المناسبة :
بعد أن ذكرهم تعالى بالنعم، بين لونا من ألوان طغيانهم وجحودهم، وتبديلهم لأوامر الله، وهم مع الكفر والعصيان، يعاملون باللطف والإحسان، فما أقبحهم من أمة وما أخزاهم !! قال الطبري : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل، أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالا، يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلا من خيارهم كما قال تعالى :[ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ] وقال لهم : صوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم ففعلوا، وخرج بهم إلى " طور سيناء " فقالوا لموسى : اطلب لنا أن نسمع كلام ربنا فقال : أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام، حتى تغشى الجبل كله، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوا الله يكلم موسى يأمره وينهاه، فلما انكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم فقالوا لموسى مقالتهم الشنيعة [ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ].
اللغة :
[ جهرة ] علانية، وأصل الجهر : الظهور، ومنه الجهر بالقراءة والجهر بالمعاصي يعني المظاهرة بها، تقول : رأيت الأمير جهاراً أي غير مستتر بشئ، وقال ابن عباس : جهرة : عيانا، [ الصاعقة ] صيحة العذاب أو هي نار محرقة
[ بعثناكم ] أحييناكم، قال الطبري : وأصل البعث : إثارة الشيء من محله
[ الغمام ] جمع غمامه كسحابة وسحاب، وزنا ومعنى، لأنها تغم السماء أي تسترها، وكل مغطى فهو مغموم، وغم الهلال : إذا غطاه الغيم فلم ير.
[ حطة ] : مصدر أي حط عنا ذنوبنا، وهي كلمة استغفار ومعناها : اغفر خطايانا.
[ رجزا ] عذابا ومنه [ لئن كشفت عنا الرجز ] أي العذاب
[ يفسقون ] الفسق : الخروج من الطاعة.
التفسير :
[ وإذ قلتم يا موسى ] أي اذكروا يا بني إسرائيل، حين خرجتم مع موسى، لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل، فقلتم
[ لن نؤمن لك ] أي لن نصدق لك بأن ما نسمعه كلام الله
[ حتى نرى الله جهرة ] أي حتى نرى الله علانية
[ فأخذتكم الصاعقة ] أي أرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم بها
[ وأنتم تنظرون ] أي ما حل بكم، حيث كان يموت الواحد أمام الآخر.. ثم لما ماتوا قام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم! ؟ وما زال يدعو ربه حتى أحياهم الله له، قال تعالى :
[ ثم بعثناكم من بعد موتكم ] أي أحييناكم بعد أن مكثتم ميتين يوما وليلة، فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون
[ لعلكم تشكرون ] أي لتشكروا الله على إنعامه عليكم، بالبعث بعد الموت، وقد رأيتم هذه الآية الباهرة بأعينكم. ثم ذكرهم تعالى بنعمته عليهم وهم فى الصحراء، في أرض التيه، لما امتنعوا من دخول مدينة (الجبارين) وقتالهم، وقال لموسى [ اذهب أنت وربك فقاتلا ] فعوقبوا على ذلك بالضياع أربعين سنة، يتيهون في الأرض، ثم قال تعالى :
[ وظللنا عليكم الغمام ] أي سترناكم بالسحاب من حر الشمس، وجعلناه عليكم كالظلة
[ وأنزلنا عليكم المن والسلوى ] أي أنعمنا عليكم بأنواع من الطعام والشراب، من غير كد ولا تعب، والمن كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى : طير يشبه " السماني " لذيذ الطعم كرامة من الله لهم
[ كلوا من طيبات ما رزقناكم ] أي وقلنا لهم كلوا من لذائذ نعم الله
[ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ] أي أنهم كفروا هذه النعم الجليلة، وما ظلمونا ولكن ظلموا أنفسهم، لأن وبال العصيان راجع عليهم