ولهذه السورة الكريمة هدفان أساسيان - إلى جانب الأحكام الأخرى - هما : أولا : بيان القانون الإسلامي في معاملة المشركين، وأهل الكتاب. ثانيا : إظهار ما كانت عليه النفوس حينما استنفرهم الرسول لغزو الروم. " أما بالنسبة للهدف الأول فقد عرضت السورة إلى عهود المشركين فوضعت لها حدا، ومنعت حج المشركين لبيت الله الحرام، وقطعت الولاية بينهم وبين المسلمين، ووضعت الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في الجزيرة العربية، وإباحة التعامل معهم، وقد كان بين النبي (ص) والمشركين عهود ومواثيق، كما كان بينه وبين أهل الكتاب عهود أيضا، ولكن المشركين نقضوا العهود وتآمروا مع اليهود عدة مرات على حرب المسلمين، وخانت طوائف اليهود " بنو النضير " و " بنو قريظة " و " بنو قينقاع " ما عاهدوا عليه رسول الله (ص) ونقضوا عهودهم مرات ومرات، فلم يعد من الحكمة أن يبقى المسلمون متمسكين بالعهود وقد نقضها أعداؤهم، فنزلت السورة الكريمة بإلغاء تلك العهود ونبذها إليهم على وضوح وبصيرة، لأن الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة، وبذلك قطع الله تعالى ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد، ولا صلح، ولا تعاهد، ولا سلم، ولا أمان، بعد أن منحهم الله فرصة كافية هي السياحة في الأرض (أربعة أشهر) ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم.. وفي ذلك نزل صدر السورة الكريمة [ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين.. ] الآيات. ثم تلتها الآيات في قتال الناقضين للعهود من أهل الكتاب [ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.. ] الآية، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من عشرين آية، كشف الله سبحانه فيها القناع عن خفايا أهل الكتاب، وما انطوت عليه نفوسهم من خبث، ومكر، وحقد على الإسلام والمسلمين. " وعرضت السورة للهدف الثاني، وهو شرح نفسيات المسلمين حين استنفرهم رسول الله (ص) لغزو الروم، وقد تحدثت الآيات عن المتثاقلين منهم والمتخلفين، والمثبطين وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، باعتبار خطرهم الداهم على الإسلام والمسلمين، وفضحت أساليب نفاقهم، وألوان فتنتهم وتخذيلهم للمؤمنين، حتى لم تدع لهم سترا إلا هتكته، ولا دخيلة إلا كشفتها، وتركتهم بعد هذا الكشف والإيضاح تكاد تلمسهم أيدي المؤمنين، وقد استغرق الحديث عن المنافقين معظم السورة بدءا من قوله تعالى [ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك.. ] إلى قوله تعالى [ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ] ولهذا سماها بعض الصحابة " الفاضحة " لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم، قال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال : تلك الفاضحة، ما زال ينزل :(ومنهم ) (ومنهم )، حتى خفنا ألا تدع منهم أحدا، وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال : إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا من المنافقين إلا نالت منه، وهذا هو السر في عدم وجود البسملة فيها، قال ابن عباس : سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة [ بسم الله الرحمن الرحيم ] ؟ قال : لأن [ بسم الله الرحمن الرحيم ] أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان، وقال سفيان بن عيينة : إنما لم تكتب البسملة في صدر هذه السورة، لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين، وبالسيف، ولا أمان للمنافقين. وبالجملة فإن هذه السورة الكريمة قد تناولت " الطابور الخامس " المندس بين صفوف المسلمين ألا وهم (المنافقون ) الذين هم أشد خطرا من المشركين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، وظلت تقذفهم


الصفحة التالية
Icon