ثالثا : قوله تعالى :[ مما تنبت الأرض ] المنبت الحقيقي هو الله سبحانه ففيه مجاز يسمى (المجاز العقلي) وعلاقته السببية، لأن الأرض لما كانت سببا للنبات أسند إليها، كما يقال : بنى الملك البلدة، لأنه أمر ببنائها.
رابعا : قوله :[ وضربت عليهم الذلة والمسكنة ] كناية عن إحاطتهما بهم كما تحيط القبة بمن ضربت عليه كما قال الشاعر :
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
خامساً : تقييد قتل الأنبياء بقوله :[ بغير الحق ] مع أن قتلهم لا يكون بحق البتة، إنما هو لزيادة التشنيع بقبح عدوانهم.
الفوائد :
الأولى : حكى المفسرون أقوالاً كثيرة فى الحجر الذي ضربه موسى فجرت منه العيون ما هو ؟ وكيف وصفه ؟ والذي يكفي في فهم معنى الآية، أن واقعة (انفجار الماء) إنما كان على وجه " المعجزة " وأن الحجر الذى ضربه موسى كان من الصخر الأصم الذى ليس من شأنه الانفجار بالماء، وهنا تكون المعجزة أوضح، والبرهان أسطع، قال الحسن البصري : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال : وهذا أظهر في الحجة، وأبين فى القدرة.
الثانية : فإن قيل ما الحكمة في جعل الماء اثنتى عشرة عينا ؟ والجواب : أن قوم موسى كانوا كثيرين، وكانوا في الصحراء، والناس إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه، فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع، فأكمل الله هذه النعمة، بأن عين لكل سبط منه ماء معيناً على عددهم، لأنهم كانوا اثنى عشر سبطا، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثنى عشر، والله أعلم.
الثالثة : ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالفوم في قوله :[ وفومها ] الحنطة، والأرجح أن المراد به (الثوم) بدليل قراءة ابن مسعود [ وثومها ] وبدليل اقتران البصل بعده بها.. قال الفخر الرازي : الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة، واستدل القرطبي على ذلك بقول حسان : وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل، يعنى الثوم والبصل.
قال الله تعالى :[ وإذ أخذنا ميثاقكم.. إلى.. وما خلفها وموعظة للمتقين ] من آية (٦٣) إلى نهاية آية (٦٦).
المناسبة :
لما ذكرهم تعالى بالنعم الجليلة العظيمة، أردف ذلك ببيان ما حل بهم من نقم، جزاء كفرهم وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا فى السبت، فمسخهم الله إلى قردة، وهكذا شأن كل أمة عتت عن أمر ربها وعصت رسله.
اللغة :
[ ميثاقكم ] الميثاق : العهد المؤكد بيمين ونحوه، والمراد هنا العمل بأحكام التوراة
[ الطور ] هو الجبل الذى كلم الله عليه موسى عليه السلام
[ بقوة ] بحزم وعزم
[ توليتم ] التولي : الإعراض عن الشيء والإدبار عنه
[ خاسئين ] جمع خاسئ وهو الذليل المهين، قال أهل اللغة : الخاسئ : الصاغر المبعد المطرود، كالكلب إذا دنا من الناس قيل له : اخسأ أي تباعد وانطرد صاغرا
[ نكالا ] النكال : العقوبة الشديدة الزاجرة، ولا يقال لكل عقوبة نكال حتى تكون زاجرة رادعة.
التفسير :
[ وإذ أخذنا ميثاقكم ] أي اذكروا يا بني إسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة
[ ورفعنا فوقكم الطور ] أي نتقناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم
[ خذوا ما آتيناكم بقوة ] أي اعملوا بما في التوراة بجد وعزيمة
[ واذكروا ما فيه ] أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه
[ لعلكم تتقون ] أي لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب فى الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق المتقين
[ ثم توليتم من بعد ذلك ] أي أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه
[ فلولا فضل الله عليكم ] أي بقبول التوبة
[ ورحمته ] بالعفو عن الزلة
[ لكنتم من الخاسرين ] أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة
[ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ] أي عرفتم ما فعلناه بمن عصى أمرنا، حين خالفوا واصطادوا يوم السبت، وقد نهيناهم عن ذلك