[ بلى من كسب سيئة ] أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي عمل الكبائر، وكذلك كل من اقترف السيئة، والمراد بها هنا : الشرك بالله، لأنه هو المخلد في نار الجحيم
[ وأحاطت به خطيئته ] أي غمرته من جميع جوانبه، وسدت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود
[ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ] أي فالنار ملازمة لهم، لا يخرجون منها أبدا
[ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ] أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإيمان، والعمل الصالح، فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون
[ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ] أي مخلدون في الجنان، لا يخرجون منها أبدا، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
البلاغة :
أولا : قوله تعالى :[ وهم يعلمون ] جملة حالية مفيدة لكمال قبح صنيعهم، فتحريفهم للتوراة كان عن قصد وتصميم، لا عن جهل أو نسيان، ومن يرتكب المعصية عن علم، يستحق الذم والتوبيخ، أكثر ممن يرتكبها وهو جاهل بحكمها وبشناعتها.
ثانيا : قوله :[ يكتبون الكتاب بأيديهم ] ذكر الأيدى هنا لدفع توهم المجاز، وللتأكيد بأن الكتابة باشروها بأنفسهم، كما يقول القائل : كتبته بيميني، وسمعته بأذني، ورأيته بعيني، فهي لزيادة التأكيد، وتقرير الجناية.
ثالثا : قوله :[ ما يسرون وما يعلنون ] فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بـ (الطباق) حيث جمع بين لفظتي " يسرون " و " يعلنون " وهو من نوع طباق الإيجاب، وهو أن يأتي باللفظ وضده، كقوله تعالى (أضحك وأبكى).
رابعا : التكرير في قوله :[ فويل للذين يكتبون الكتاب ] وقوله :[ فويل لهم مما كتبت أيديهم ] وقوله :[ وويل لهم مما يكتبون ] تكرار الويل : للتوبيخ والتقريع، ولبيان أن جريمتهم بلغت من القبح والشناعة الغاية القصوى.
خامسا : قوله :[ وأحاطت به خطيئته ] فيه استعارة لطيفة، حيث شبه (الذنوب) و(الخطايا) بجيش من الأعداء، نزل على قوم من كل جانب، فأحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، واستعار لفظة الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، فكأنها أحاطت بها من جميع الجهات.
الفوائد :
الفائدة الأولى : تحريف كلام الله، يكون بتأويله تأويلا فاسدا، ويكون بمعنى : التغيير وتبديل كلام بكلام، وقد وقع من أحبار اليهود التحريف بالأمرين : بالتأويل، وبالتغيير، كما فعلوا في صفته (ص)، قال العلامة أبو السعود : روي أن أحبار اليهود خافوا زوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة النبى (ص) في التوراة، وكانت هي فيها (حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، أبيض، ربعة) الخ، فغيروها وكتبوا مكانها " طوال، أزرق، سبط الشعر " فإذا سألهم العامة عن ذلك قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفا لما في التوراة، فيكذبونه.
الثانية : التحريف بقسمية وقع في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل كما قال تعالى :[ يحرفون الكلم عن مواضعه ] أما التحريف بمعنى التأويل الباطل فقد وقع في القرآن، من الجهلة أو الملاحدة، وأما التحريف بمعنى إسقاط الآية ووضع كلام بدلها، فقد حفظ الله منه كتابه العزيز بقوله سبحانه [ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ] والحمد لله أن الله تكفل بحفظه بنفسه، ولم يتركه للخلق، كما هو شأن التوراة والإنجيل.


الصفحة التالية
Icon