[ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ] أي ثم نقضتم أيضا الميثاق يا معشر اليهود، بعد إقراركم به، فقتلتم إخوانكم في الدين، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل
[ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ] أي كما طردتموهم أيضا من ديارهم، من غير التفات إلى العهد الوثيق الذي عاهدتم عليه ربكم
[ تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ] أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم
[ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ] أي إذا وقعوا في الأسر فاديتموهم، ودفعتهم المال لتخليصهم من الأسر
[ وهو محرم عليكم إخراجهم ] أي وإخراجهم من أوطانهم حرام عليكم، فكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم ؟
[ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ] ؟ أي أفتؤمنون ببعض أحكام التوراة، وتكفرون ببعض ؟ والغرض التوبيخ لهم، لأنهم جمعوا بين الكفر والإيمان، الكفر بقتلهم، والإيمان بفدائهم من أيدي الأعداء، والكفر ببعض آيات الله، كفر بالكتاب كله، ولهذا عقب تعالى على ذلك بقوله :
[ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ] أي ما عقوبة من يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، إلا ذل وهوان، ومقت وغضب في الدنيا
[ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ] أي وهم صائرون في الآخرة إلى عذاب أشد منه، لأنه عذاب خالد، لا ينقضي ولا ينتهي
[ وما الله بغافل عما تعملون ] أي وليس الله غافلا عن جرائمكم، وأعمالكم القبيحة، وفيه وعيد شديد، لمن عصى أوامر العزيز الحميد.. ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك العصيان والعدوان فقال :
[ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ] أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة، هم الذين استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة، بمعنى : اختاروها وآثروها على الآخرة
[ فلا يخفف عنهم العذاب ] أي لا يفتر عنهم العذاب ساعة واحدة
[ ولا هم ينصرون ] أي وليس لهم ناصر ينصرهم، ولا مجير ينقذهم من عذاب الله الأليم.
تنبيه :
كانت قبيلة (بنو قريظة) و(بنو النضير) من اليهود، يسكنون في أطراف المدينة المنورة، فحالفت بنو قريظة (الأوس)، وبنو النضير (الخزرج)، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق من اليهود مع حلفائه، فيقتل اليهودي أخاه اليهودي من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث، والمتاع، والمال، وذلك حرام عليهم في دينهم، وفي نص التوراة، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها افتكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة، ولهذا وبخهم تعالى بقوله :[ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ] ؟
البلاغة :
١- [ لا تعبدون إلا الله ] خبر فى معنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي، كما قال أبو السعود لما فيه من إيهام أن المنهي، حقه أن يسارع إلى الانتهاء، فكأنه انتهى عنه، فجاء بصيغة الخبر، وأراد به النهي.
٢- [ وقولوا للناس حسنا ] وقع المصدر موقع الصفة أي قولاً حسنا أو ذا حسن للمبالغة، فإن العرب تضع المصدر مكان اسم الفاعل أو الصفة، بقصد المبالغة فيقولون : هو عدل، كأنه لشدة عدالته عين العدل.
٣- التنكير فى قوله :[ خزي في الحياة الدنيا ] للتفخيم والتهويل.
٤- [ تقتلون أنفسكم ] عبر عن قتل الغير بقتل النفس، لأن من أراق دم غيره، فكأنما أراق دم نفسه، لأن الناس كأنهم جسد واحد، فالعدوان عليهم عدوان على النفس الإنسانية.
٥- [ أفتؤمنون ] ؟ الهمزة للإنكار التوبيخي، والتوبيخ أسلوب من أساليب البيان.
الفوائد :
الفائدة الأولى : جاء الترتيب في الآية بتقديم الأهم فالأهم، فقدم تعالى (حق الله) سبحانه، لأنه المنعم في الحقيقة على العباد، ثم قدم (حق الوالدين) لحقهما الأعظم في تربية الولد، ثم (حق القرابة) لأن الواجب لهم صلة الرحم وأجر الإحسان، ثم (حق اليتامى) لقلة حيلتهم، ثم (المساكين) لضعفهم ومسكنتهم، فبدأ بالأهم فالأهم.


الصفحة التالية
Icon