[ أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ] أي أمرنا بأن يصونا البيت من الأرجاس والأوثان، ليكون معقلا للطائفين حوله، والمعتكفين الملازمين له، والمصلين فيه، فالآية جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام :(الطائفين، والمعتكفين، والمصلين).. ثم أخبر تعالى عن دعوة الخليل إبراهيم فقال :
[ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ] أي اجعل هذا المكان – والمراد مكة المكرمة – بلداً ذا أمن، يكون أهله في أمن واستقرار
[ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ] أي وارزق يا رب المؤمنين من أهله وسكانه، من أنواع الثمرات، ليقبلوا على طاعتك ويتفرغوا لعبادتك، وخص بدعوته المؤمنين فقط، قال تعالى جوابا له
[ قال ومن كفر فأمتعه قليلا ] أي قال الله : وأرزق من كفر أيضا كما أرزق المؤمن، أأخلق خلقا ثم لا أرزقهم ؟ أما الكافر فأمتعه في الدنيا متاعا قليلا، وذلك مدة حياته فيها
[ ثم اضطره إلى عذاب النار ] أي ثم ألجئه فى الآخرة وأسوقه إلى عذاب النار، فلا يجد عنها محيصا
[ وبئس المصير ] أي وبئس المآل والمرجع للكافر، أن يكون مأواه نار جهنم.. قاس الخليل الرزق على الإمامة، فنبهه تعالى على أن الرزق رحمة دنيوية، شاملة للبر والفاجر، بخلاف الإمامة فإنها خاصة بالخواص من المؤمنين، ثم قال تعالى حكاية عن قصة بناء البيت العتيق
[ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ] أي واذكر يا أيها الرسول لقومك ذلك الأمر الغريب، وهو رفع الرسولين العظيمين (إبراهيم وإسماعيل) قواعد البيت وقيامهما بوضع أساسه ورفع بنائه، وهما يقولان بخضوع وإجلال
[ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ] أي يبنيان ويدعوان بهذه الدعوات الكريمة، قائلين : يا ربنا تقبل منا أي أقبل منا عملنا هذا، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، فإنك أنت السميع لدعائنا العليم بنياتنا
[ ربنا واجعلنا مسلمين لك ] أي اجعلنا خاضعين لك منقادين لحكمك
[ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ] أي واجعل من ذريتنا من يسلم وجهه لك ويخضع لعظمتك
[ وأرنا مناسكنا ] أي وعلمنا شرائع عبادتنا ومناسك حجنا
[ وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ] أي تب علينا وارحمنا، فإنك عظيم المغفرة واسع الرحمة
[ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ] أي ابعث في الأمة المسلمة رسولا من أنفسهم، وهذا من جملة دعواتهما المباركة، وقد استجاب الله الدعاء ببعثة السراج المنير محمد (ص)
[ يتلو عليهم آياتك ] أي يقرأ آيات القرآن
[ ويعلمهم الكتاب والحكمة ] أي يعلمهم القرآن والسنة المطهرة
[ ويزكيهم ] أي يطهرهم من رجس الشرك
[ إنك أنت العزيز الحكيم ] العزيز الذي لا يقهر ولا يغلب، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
البلاغة :
١- التعرض لعنوان الربوبية [ ابتلى إبراهيم ربه ] تشريف له عليه السلام، وإيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له، وترشيح لأمر خطير، والمراد أنه سبحانه عامله معاملة المختبر، حيث كلفه بأوامر ونواهي، يظهر بها استحقاقه للإمامة العظمى.
٢- إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل في قوله :[ وأمنا ] للمبالغة، والإسناد مجازي، أي آمنا من دخله كقوله تعالى :[ ومن دخله كان آمنا ] وخير ما فسرته بالوارد.
٣- إضافة البيت إلى ضمير الجلالة [ وطهر بيتي ] للتشريف والتعظيم.
٤- قوله تعالى :[ وإذ يرفع إبراهيم ] ورد التعبير بصيغة المضارع حكاية عن الماضي، ولذلك وجه معروف في محاسن البيان، وهو استحضار الصورة الماضية، وكأنها مشاهدة بالعيان، فكأن السامع ينظر ويرى إلى البنيان وهو يرتفع أمامه، والبناء هو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، قال أبو السعود : وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة المنبئة عن المعجزة الباهرة.