٥- [ التواب الرحيم ] صيغتان من صيغ المبالغة، لأن " فعال " و " فعيل " من صيغ المبالغة، أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة، لا يخيب من دعاه.
الفوائد :
الفائدة الأولى : تقديم المفعول في قوله :[ ابتلي إبراهيم ربه ] واجب لاتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول، فلو قدم الفاعل لزم عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، وهذا لا يصح، قال ابن مالك :
وشاع نحو خاف ربه عمر وشذ نحو زان نوره الشجر
الثانية : الاختبار في الأصل الامتحان بالشيء، ليعلم صدق ذلك الشخص أو كذبه، وهو مستحيل على الله، لأنه عالم بذلك قبل الاختبار، فالمراد أنه عامله معاملة المختبر، لكشف الطائع من العاصي لعباده، فإنه تعالى عالم بعواقب الأمور.
الثالثة : اختلف المفسرون في الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم عليه السلام، وأصح هذه الأقوال ما روي عن ابن عباس أنه قال :" الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجة نمرود في الله، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه، والهجرة من وطنه حين أمر بالخروج عنهم، وما ابتلى به من ذبح ابنه إسماعيل حين أمر بذبحه ".
الرابعة : المراد من الإمامة في الآية الكريمة (الإمامة في الدين) وهي النبوة التي حرمها الظالمون، ولو كانت الإمامة الدنيوية لخالف ذلك الواقع، إذ نالها كثير من الظالمين، فظهر أن المراد : الإمامة في الدين خاصة.
الخامسة : ذكر العلامة ابن القيم أن السر في تفضيل البيت العتيق ظاهر، وذلك في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب ومحبتها له، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهم يثوبون إليه من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرا، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقا.
لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
قال الله تعالى :[ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه.. إلى.. ولا تسألون عما كانوا يعملون ] من آية (١٣٠) إلى نهاية آية (١٣٤).
المناسبة :
لما ذكر تعالى مآثر الخليل إبراهيم عليه السلام، وقصة بنائه للبيت العتيق منار التوحيد، أعقبه بالتوبيخ الشديد للمخالفين لملة الخليل من اليهود والنصارى والمشركين، وأكد أنه لا يرغب عن ملته إلا كل شقي سفيه الرأي، خفيف العقل، متبع لخطوات الشيطان.
اللغة :
[ سفه نفسه ] امتهنها واستخف بها، وأصل السفه : الخفة ومنه زمام سفيه أي خفيف
[ اصطفيناه ] أي جعلناه صافيا من الأدناس، مشتق من الصفوة ومعناه تخير الأصفى، والمراد اصطفاؤه بالرسالة والخلة والإمامة العظمى
[ وصى ] التوصية : إرشاد الغير إلى ما فيه صلاح وقربة
[ شهداء ] جمع شاهد أي حاضر
[ خلت ] مضت وانقرضت.
التفسير :
[ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ] أي لا يرغب عن دين إبراهيم وملته الواضحة الغراء، إلا من استخف نفسه وامتهنها
[ ولقد اصطفيناه في الدنيا ] أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة
[ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ] أي هو من المقربين الذين لهم الدرجات العلى
[ إذ قال له ربه أسلم ] أي استسلم لأمر ربك، وأخلص نفسك له
[ قال أسلمت لرب العالمين ] أي استسلمت لأمر الله وخضعت لحكمه
[ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ] أي وصى الخليل أبناءه باتباع ملته، وكذلك يعقوب أوصى بملة إبراهيم
[ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ] أي اختار لكم دين الإسلام ديناً، وهذه حكاية لوصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما
[ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ] أي اثبتوا على الإسلام، حتى يدرككم الموت وأنتم متمسكون به، فتموتون مسلمين
[ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ] أي هل كنتم شهداء حين احتضر (يعقوب) وأشرف على الموت، وأوصى بنيه باتباع ملة إبراهيم ؟
[ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ] أي أي شيء تعبدونه بعدي ؟


الصفحة التالية
Icon