[ فحملته فإنتبذت به مكانا قصيا ] انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء، وهناك نفخ جبريل في جيب درعها، فدخلت النفخة في جوفها فحملت به، وتنحت إلى مكان بعيد، ومعنى الآية : أنها حملت بالجنين فاعتزلت - وهو في بطنها - مكانا بعيدا عن أهلها خشية أن يعيروها بالولادة من غير زوج
[ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ] أي فألجأها ألم الطلق وشدة الولادة إلى ساق نخلةٍ يابسة، لتعتمد عليه عند الولادة
[ قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ] أى قالت يا ليتنى كنت قد مِت قبل هذا اليوم، وكنت شيئا تافها لا يُعرف ولا يُذكر، قال ابن كثير : عرفت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود فتمنت الموت، لأنها عرفت أن الناس لا يصدًقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عاهرة زانية، ولذلك قالت ما قالت
[ فناداها من تحتها ألا تحزني ] أى فناداها الملك من تحت النخلة، قائلا لها : لا تحزني لهذا الأمر
[ قد جعل ربك تحتك سريا ] أى جعل لك جدولا صغيرا يجرى أمامك، قال ابن عباس : ضرب جبريل برجله الأرض، فظهرت عين ماءِ عذب، فجرى جدولا
[ وهزى إليك بجذع النخلة ] أى حركي جذع النخلة اليابسة
[ تساقط عليك رطبا جنيا ] أى يتساقط عليك الزطب الشهى الطري، قال المفسرون : أمرها بهز الجذغ اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، بعد رويتها عين الماء العذب الذي جرى جدولا، وذلك ليسكن ألمها، وتعلم أن ذلك كرامة من الله لها
[ فكلي واشربى ] أى كلي من هذا الرطَب الشهي، واشربي من هذا الماء العذب السلسبيل
[ وقري عينا ] أى طيبي نفسا بهذا المولود ولا تحزني
[ فإما ترين من البشر أحدا ] أى فإن رأيتِ أحدا من الناس وسألكِ عن شأن المولود
[ فقولي إني نذرت للرحمن صوماَ ] أى نذرت السكوتَ والصمت لله تعالى
[ فلن أكلم اليوم إنسيا ] أى لن أكلم أحداً من الناس.. اُمِرت بالكف عن الكلام، ليكفيها ولدها ذلك فتكون آية باهرة
[ فأتت به قومها تحمله ] أى أتت قومها بعد أن طهرت من النفاس تحمل ولدها (عيسى) على يديها
[ قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ] أى فلما رأوها وابنها، أعظموا أمرها واستنكروه وقالوا لها : لقد جئتِ شيئا عظيما مُنكرا
[ يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء ] أى يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة، ما كان أبوك رجلا فاجرا
[ وما كانت أمك بغيا ] أى وما كانت اُمكِ زانية، فكيف صدر هذا منك ؟ وأنت من بيت طاهر معروف بالصلاح والعبادة ؟ قال قتادة : كان هارون رجلا صالحاً في بنى إسرائيل مشهورا بالصلاح فشبْهوها به، وليس بهارون اخي موسى، لأن بينهما ما يزيد على ألف عام وقال السهيلى : هارون رجل من عُباد بنى إسرائيل المجتهدين، كانت مريم تُشبه به في اجتهادها، وليس بهارون أخي موسى بن عمران فإن بينهما دهرا طويلا
[ فأشارت إليه ] أى لم تجبهم وأشارت إلى عيسى ليكلموه وسألوه
[ قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا ] أى قالوا متعجبين : كيف نكلم طفلا رضيعا لا يزال في السرير يغتذي بلبان اُمه ؟ قال الرازي : روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع، وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان
[ قال إني عبد الله ] أى قال عيسى في كلامه حين كلمهم : أنا عبد لله خلقني بقدرته من دون أب، قدم ذكر العبودية، ليُبطل قول من ادعى فيه الربوبية
[ أتاني الكتاب وجعلني نبيا ] أى قضى ربي أن يؤتيني الإنجيل ويجعلنى نبيا، وإنما جاء بلفظ الماضي لإفادة تحققه، فإن ما حكم به الله أزلا لا بد إلا أن يقع
[ وجعلني مباركاً أين ما كنت ] أى جعل في البركة والخير والنفع للعباد، حيثما كنت وأينما حللت
[ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ] أى أوصاني بالمحافظة على الصلاة والزكاة مدة حياتي


الصفحة التالية
Icon