[ فلا يستطيعون سبيلا ] أي فلا يجدون طريقا إلى الحق بعد أن ضلوا عنه، بتكذيبك وإنكار رسالتك، ذكروا له عليه الصلاة والسلام خمس صفات، وزعموا أنها تخل بالرسالة، زعما منهم أن فضيلة الرسول على غيره تكون بأمور جسمانية، وهذه غاية الجهالة والسفاهة، فرد الله عليهم بأمرين : الأول : تعجيب الرسول (ص) من تناقضهم، فتارة يقولون عنه شاعر، وتارة ساحر، وأخرى يقولون أنه مجنون، حتى أصبحت تلك الأقوال الغريبة الشاذة، والأمور العجيبة جارية مجرى الأمثال والثاني : أن الله تعالى لو أراد لأعطى نبيه خيرا مما اقترحوا، وأفضل مما يتصورون، وهو المراد بقوله
[ تبارك الذى إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ] أي تمجد وتعظم الله الكبير الجليل، الذي لو أراد لجعل لك خيرا من ذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا
[ جنات تجرى من تحتها الأنهار ] أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق، تسير فيها الأنهار، لا جنة واحدة
[ ويجعل لك قصورا ] أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة، كما هو حال الملوك، قال الضحاك : لما عير المشركون رسول الله (ص)، بالفاقة حزن عليه السلام فنزل جبريل معزيا له فبينما النبي وجبريل يتحدثان إذ فتح باب من السماء، فقال جبريل : أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة، قد أتاك بالرضى من ربك، فسلم عليه وقال : ربك يخيرك بين أن تكون نبيا ملكا، وبين أن تكون نبيا عبدا - ومعه سفط من نور يتلألأ- ثم قال : هذه مفاتيح خزائن الأرض، فنظر رسول الله، إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع ! فقال رسول الله (ص) :" بل نبيا عبدا " فكان عليه السلام بعد ذلك لا يأكل متكأ حتى فارق الدنيا
[ بل كذبوا بالساعة ] أي بل كذبوا بالقيامة
[ وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ] أي وهيأنا لمن كذب بالآخرة نارا شديدة الاستعار، قال الطبري : المعنى ما كذب هؤلاء المشركون بالله، وأنكروا ما جئتهم به من الحق، من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد، تكذيبا منهم بالقيامة، وأعددنا لمن كذب بالبعث نارا تسعر عليهم وتتقد
[ إذا رأتهم من مكان بعيد ] أي إذا رأت جهنم هؤلاء المشركين من مسافة بعيدة، وهي خمسمائة عام
[ سمعوا لها تغيظا وزفيرا ] أي سمعوا صوت لهيبها وغليانها، كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ، وسمعوا لها صوتا كصوت الحمار وهو الزفير، قال ابن عباس : إن الرجل ليجر إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف، وتقييد الرؤية بالبعد [ من مكان بعيد ] فيه مزيد تهويل لأمرها
[ وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا ] أي وإذا ألقوا في جهنم، في مكان ضيق، قال ابن عباس : تضيق عليهم ضيق الزج في الرمح - الزج : الحديدة التي في أسفل الرمح - [ مقرنين ] أي مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل
[ دعوا هنالك ثبورا ] أي دعوا في ذلك المكان على أنفسهم، بالويل والهلاك يقولون : يا هلاكنا، نادوه نداء المتمني للهلاك، ليسلموا مما هو أشد منه، كما قيل : أشد من الموت، ما يتمنى معه الموت
[ لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وأدعوا ثبورا كثيرا ] أي يقال لهم : لا تدعوا اليوم بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة، بل ادعوا مرات ومرات، فإن ما أنتم فيه من العذاب الشديد، يستوجب تكرير الدعاء في كل حين وآن، وفيه إقناط لهم من استجابة الدعاء، أو تخفيف العذاب عنهم


الصفحة التالية
Icon