[ قال ربكم ورب آبائكم الأولين ] أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدل عن التعريف العام إلى التعريف الخاص لأن دليل الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل [ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ] فعند ذلك غضب فرعون، ونسب موسى إلى الجنون
[ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ] سماه رسولا استهزاء وإضافه إلى المخاطبين استنكافا من نسبته له، أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون، وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريف ثالث أوضح من الثاني
[ قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ] أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل، ولهذا قال :[ إن كنتم تعقلون ] أي إن كان لكم عقول أدركتم إن هذا لا يقدر عليه إلا رب العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل، كقول إبراهيم في مناظرة النمرود [ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ] ولما إنقطع فرعون وأبلس في الحجة، رجع إلى الاستعلاء متوعدا بالبطش والعنف
[ قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين ] أي لئن اتخذت ربا غيري، لألقينك في غياهب السجن، قال المفسرون : وكان سجنه شديدا يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحدا حتى يموت، ولهذا لم يقل " لأسجننك " وإنما قال لأجعلنك من المسجونين، لأن سجنه كان أشد من القتل، قال المفسرون : لما أظهر فرعون الجهل بالله فقال :[ وما رب العالمين ] أجابه موسى بقوله :[ رب السموات والأرض ] فقال :[ ألا تستمعون ] ؟ تعجبا من جوابه، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله :[ ربكم ورب آبائكم الأولين ] لأن وجود الإنسان وآبائه أظهر الأدلة عند العقلاء، وأعظم البراهين، فإن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطة منه، وأيده بالإزدراء والتهكم في قوله :[ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ] فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله :[ رب المشرق والمغرب ] لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحدا جحدها، ولا أن يدعيها لغير الله، فلما إنقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعا في إيمانه
[ قال أولو جئتك بشيء مبين ] أي أتسجنني ولو جئتك بأمر ظاهر، وبرهان قاطع تعرف به صدقي ؟
[ قال فأت به إن كنت من الصادقين ] أي فائت بما تقول إن كنت صادقا في دعواك
[ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ] أي رمى موسى عصاه، فإذا هي حية عظيمة، في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير، وشكل هائل مزعج
[ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ] أي وأخرج يده من جيبه فإذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة، لها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق
[ قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ] أي قال فرعون لأشراف قومه، الذين كانوا حوله : إن هذا لساحر عظيم بارع في فن السحر.. أراد أن يعمي على قومه تلك المعجزة برميه بالسحر، خشية أن يتأثروا بما رأوا
[ يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ] أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم
[ فماذا تأمرون ] أي فبأي شيء تأمروني ؟ وبما تشيرون علي أن أصنع به ؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستبدا بالرأي والتدبير
[ قالوا أرجه وأخاه ] أي أخر أمرهما
[ وابعث في المدائن حاشرين ] أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان


الصفحة التالية
Icon