[ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ] أي طلب المغفرة من الله وخر ساجدا لله تعالى، ورجع إليه بالتوبة والندم على ما فرط منه، قال أبو حيان : وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحا، والذي يدل عليه ظاهر الآية، من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظنا منه أنهم يغتالونه، إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم إثنان للتحاكم كما قص الله تعالى فاستغفر من ذلك الظن، وخر ساجدا لله عز وجل، ونحن نعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا، إذ لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع، ولم نثق بشىء مما يذكرون، فما حكى الله في كتابه يمر على ما أراده الله، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة طرحناه ثم قال تعالى :
[ فغفرنا له ذلك ] أي فسامحناه وعفونا عنه ذلك الظن السيىء بالرجلين قال ابن كثير : أي غفرنا له ما كان منه مما يقال فيه :" حسنات الأبرار سيئات المقربين "
[ وإن له عندنا لزلفى ] وإن له لقربة وكرامة بعد المغفرة
[ وحسن مآب ] أي وحسن مرجع في الآخرة
[ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ] أي استخلفناك على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم
[ فاحكم بين الناس بالحق ] أي فاحكم بينهم بالعدل وبشريعة الله التي أنزلها عليك
[ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ] أي لا تتبع هوى النفس في الحكومات وغيرها، فيضلك إتباع الهوى عن دين الله القويم، وشرعه المستقيم
[ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد ] أي إن الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه، لهم عذاب شديد يوم القيامة
[ بما نسوا يوم الحساب ] أي بسبب نسيانهم وتركهم سلوك سبيل الله، وعدم إيمانهم بيوم الحساب، لأنهم لو آمنوا به لأعدوا الزاد ليوم المعاد، قال أبو حيان : وجعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته عليه السلام وإصطفائه له، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئا مما لا يليق بمنصب النبوة.
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
١ - المجاز المرسل [ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ] القرن مائة عام والهلاك لأهله، ففيه مجاز مرسل، من إطلاق القرن وإرادة أهل ذلك الزمان.
٢ - وضع الظاهر مكان الضمير [ وقال الكافرون ] بدل وقالوا، لتسجيل جريمة الكفر عليهم.
٣ - صيغة المبالغة في كل من [ كذاب، العزيز، الوهاب، أواب ].
٤ - التنوين للتقليل والتحقير وزيادة [ ما ] لتأكيد القلة [ جند ما هنالك ].
٥ - تأكيد الجملة الخبرية بإن واللام لزيادة التعجب والإنكار [ إن هذا لشيء عجاب ].
٦ - الاستعارة البليغة [ وفرعون ذو الأوتاد ] شبه الملك بخيمة عظيمة شدت أطنابها بالأوتاد، لتثبت وترسخ ولا تقتلعها الرياح ففيه استعارة مكنية وذكر الأوتاد تخييل.
٧ - الطباق [ يسبحن بالعشي والاشراق ] لأن المراد المساء والصباح.
٨ - أسلوب التشويق [ وهل أتاك نبأ الخصم ] ورد الأسلوب بطريق التشويق لسماع القصة.
٩ - أسلوب الإطناب [ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله ] إلخ.
١٠ - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل [ إن هذا لشيء عجاب.. فليرتقوا في الأسباب.. جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ] مما يزيد في روعة الكلام وجماله.
لطيفة :