[ خلق السموات بغير عمد ترونها ] أى خلق السموات في سعتها وعظمتها فى إحكامها، بدون دعائم ترتكز عليها، حال كونكم تشاهدونها كذلك، واقفة من غير أن تستند على شيء، ولا تمسكها إلا قدرة الله العلي الكبير
[ وألقى في الأرض رواسى أن تميد بكم ] أى جعل فيها جبالا ثوابت، لئلا تتحرك وتضطرب بكم فتهلككم، بأن تقلبكم عن ظهرها، أو تهدم بيوتكم بتزلزلها، قال الإمام الفخر : واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح، ولو خلقها تعالى مثل الرمل، لما كانت تثبت للزراعة، كما نرى الأراضى الرملية، ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع، فهذه هي حكمة إرسائها بالجبال، فسبحان الكبير المتعال
[ وبث فيها من كل دابة ] أي ونشر وفرق في أرجاء الأرض، من كل أنواع الحيوانات والدواب " من مأكول ومركوب، مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها
[ وأنزلنا من السماء ماء ] أى وآنزلنا لحفظكم وحفظ دوابكم، المطر من السحاب
[ فأنبتنا فيها من كل زوج ] أى فأنبتنا في الأرض من كل نوع من النبات، ومن كل صنف من الأغذية والأدوية
[ كريم ] أى كثير المنافع، بديع الخلق والتكوين (( يقول سيد قطب تغمده الله برحمته في تفسيره الظلال :" والنص القرآنى يقرر أن الله أنبت النبات أزواجا ﴿من كل زوج كريم ﴾ وهى حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم قريبا جدا، فكل نبات له خلايا تذكير، وخلايا تأنيث، إما مجتمعة في زهرة واحدة، أو في زهرتين في العود الواحد، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين ولا توجد الثمرة إلا بعد التقاء وتلقيح بين زوج النبات، كما هو الشأن في الإنسان والحيوان على السواء " وصدق الله العظيم ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ﴾ ! ! )).
[ هذا خلق الله ] أى هذا الذي تشاهدونه وتعاينونه أيها المشركون، هو من مخلوقات الله، فأنظروا في السمرات والأرض، والإنسان، والنبات، والحيوان، وسائر ما خلق الله، ثم تفكروا في آثار قدرته، وبديع صنعته، ثم أخبروني
[ فأروني ماذا خلق الذين من دونه ] ؟ أى أي شيء خلقته آلهتكم، التي عبدتموها من دون الله ؟ من الأوثان والأصنام ؟ وهو سؤال على جهة التهكم والسخرية بهم، وبآلهتهم المزعومة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الواضح، فقال سبحانه
[ بل الظالمون في ضلال مبين ] أى بل المشركون في خسران ظاهر، وضلال واضح ما بعده ضلال، لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، وعبدوا ما لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضر، فهم أضل من الحيوان الأعجم، لأن من عبد صنما جامدا، وترك خالقا عظيما مدبرا، يكون أحط شأنا من الحيوان.
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي :
١ - وضع المصدر للمبالغة [ هدى ورحمة للمحسنين ].
٢ - الإشارة بالبعيد [ تلك آيات ] عن القريب [ هذه ] لبيان علو الرتبة ورفعة القدر والشأن.
٣ - الإطناب بتكرار الضمير واسم الإشارة [ وهم بالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم ] لزيادة الثناء عليهم والتكريم لهم، كما أن الجملة تفيد الحصر أى هم المفلحون لا غيرهم.
٤ - الاستعارة التصريحية [ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ] شبه حالهم بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها، واستعار لفظ يشتري لمعنى يستبدل بطريق (الاستعارة التصريحية).
٥ - التشبيه المرسل المجمل [ كأن في أذنيه وقرا ] ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه، فهو تشبيه (مرسل مجمل ).
٦ - أسلوب التهكم [ فبشره بعذاب أليم ] لأن البشارة إنما تكون في الخير، واستعمالها في الشر سخرية وتهكم.


الصفحة التالية
Icon