لما تجهز رسول الله (ص)لفتح مكة، كتب " حاطب بن أبي بلتعة " إلى أهل مكة يخبرهم بذلك، وقال لهم : إن رسول الله، يريد أن يغزوكم فخذوا حذركم، ثم أرسل الكتاب مع ظعينة - أي امرأة مسافرة - فنزل الوحي على رسول الله (ص) يخبره بذلك، فبعث رسول الله (ص) (عليا، والزبير، والمقداد) وقال :" انطلقوا حتى تأتوا " روضة خاخ " (( " روضة خاخ " : مكان على بعد قليل من المدينة المنورة )). فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا لها : أخرجي الكتاب، فقالت : ما معي من كتاب، فقلنا لها : لتخرجن الكتاب أو لنلقين عنك الثياب، فأخرجته من عقاصها (( " عقاصها " : ضفائر شعرها ))، فأتينا به النبي (ص) فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة، إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله، فقال النبي (ص) :" ما هذا يا حاطب ؟، فقال يا رسول الله : لا تعجل على، إني كنت امرءا ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا وارتدادا عن ديني !! فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق !! فقال (ص) :" إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم !) فنزلت [ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.. ] الآية.
التفسير :
[ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ] أي يا معشر المؤمنين، يا من صدقتم بالله ورسوله، لا تتخذوا الكفار الذين هم أعدائي وأعداؤكم، أصدقاء وأحباء، فإن من علامة الإيمان، بغض أعداء الله لا مودتهم وصداقتهم، قال في التسهيل : نزلت عتابا لحاطب وزجرا عن أن يفعل أحد مثل فعله، وفيها مع ذلك تعريف له، لأن الله شهد له بالإيمان في قوله :[ يا أيها الذين آمنوا ]
[ تلقون إليهم بالمودة ] أي تحبونهم وتودونهم وتصادقونهم، مع أنهم أعداء ألداء لكم، قال القرطبي : أي تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم
[ وقد كفروا بما جاءكم من الحق ] أي والحال أنهم كافرون بدينكم، وبقرآنكم الذي أنزله الله عليكم، بالحق الواضح، والبرهان الساطع
[ يخرجون الرسول وإياكم ] أي يخرجون محمدا من مكة ظلما وعدوانا، كما يخرجون أيضا منها المؤمنين، وقدم الرسول تشريفا له ولأنه الأصل للمؤمنين، ومعنى إخراجهم أنهم ضيقوا عليهم وآذوهم، حتى خرجوا منها مهاجرين إلى المدينة
[ أن تؤمنوا بالله ربكم ] أي من أجل أنكم آمنتم بالله الواحد الأحد، كقوله تعالى :[ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ]
[ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ] شرط حذف جوابه أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله، طلبا لرضوانه، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، قال الألوسي : وجواب الشرط محذوف رد عليه ما تقدم كأنه قيل : لا تتخذوا أعدائي إن كنتم أوليائي
[ تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ] أي تسرون إليهم بالنصيحة وأنا العالم بسريرتكم وعلانيتكم، لا يخفى على شيء من أحوالكم ؟ والغرض منه التوبيخ والعتاب
[ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ] أي ومن يصادق أعداء الله، ويفش أسرار الرسول، فقد حاد عن طريق الحق والصواب.. لم أخبر تعالى المؤمنين بعداوة الكفار الشديدة لهم، المستحكمة في قلوبهم فقال :
[ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ] أي إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، يظهروا ما في قلوبهم من العداوة الشديدة لكم
[ ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ] أي يمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم والسب


الصفحة التالية
Icon