[ ولا يأتون البأس إلا قليلا ] أي ولا يحضرون القتال إلا قليلا منهم، رياء وسمعة، قال الصاوى : لأن شأن من يثبط غيره عن الحرب، إلا يفعله إلا قليلا لغرض خبيث وقال في البحر : المعنى : لا يأتون القتال إلا إتيانا قليلا، يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا تراهم يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا إضطروا إليه، فقتالهم رياء ليس بحقيقة
[ أشحة عليكم ] أي بخلاء عليكم بالمودة والشفقة والنصح، لأنهم لا يريدون لكم الخير
[ فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ] أي فإذا حضر القتال، رأيت أولئك المنافقين في شدة رعب، لا معيل لها، حتى إنهم لتدور أعينهم في أحداقهم، كحال المغشى عليه من معالجة سكرات الموت، حذرا وخورا، قال القرطبي : وصفهم بالجبن، وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا، محددا بصره، وربما غشي عليه من شدة الخوف
[ فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ] أي فإذا ذهب الخوف عنهم، وانجلت المعركة، آذوكم بالكلام بألسنة سليطة، وبالغوا فيكم طعنا وذما، قال قتادة : إذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون : أعطونا أعطونا، فإنا قد شهدنا معكم، ولستم أحق بها منا، فأما عند البأس، فأجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند الغنيمة، فأشح قوم وأبسطهم لسانا
[ أشحة على الخير ] أي خاطبوكم بما خاطبوكم به حال كونهم (أشحة) أي بخلاء على المال والغنيمة
[ أولئك لم يؤمنوا ] أي أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء، لم يؤمنوا حقيقة بقلوبهم، لأن اسلموا ظاهرا
[ فأحبط الله أعمالهم ] أي أبطلها بسبب كفرهم ونفاقهم، لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال
[ وكان ذلك على الله يسيرا ] أي وكان ذلك الإحباط مسهلا هينا على الله، ثم أخبر تعالى عنهم بما يدل على جبنهم، فقال سبحانه :
[ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ] أي يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم، أن الأحزاب - وهم كفار قريش ومن تحزب معهم - بعد انهزامهم، لم ينصرفوا عن المدينة، وهم قد انصرفوا
[ وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ] أي وإن يرجع إليهم الكفار كرة ثانية للقتال، يتمنوا لشدة جزعهم أن يكونوا في البادية مع الأعراب - لا في المدينة معكم - حذرا من القتل، وتربصا للدوائر بالمؤمنين
[ يسألون عن أنبائكم ] آي يسألون عن أخباركم وما وقع لكم، فيقولون : أهلك المؤمنون ؟ أغلب أبو سفيان ؟ ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة
[ ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ] أي ولو أنهم كانوا بينكم وقت القتال واحتدام المعركة، ما قاتلوا معكم إلا قتالا قليلا، لجبنهم وذلتهم وحرصهم على الحياة، وعدم يقينهم بنصر الله، فقلوبهم عليلة، وأجسامهم هزيلة.
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
١ - التنكير لإفادة الاستغراق والشمول [ ما جعل الله لرجل من قلبين ] وادخال حرف الجر الزائد لتأكيد الاستغراق، وذكر الجوف [ في جوفه ] لزيادة التصوير والتأكيد في الإنكار.
٢ - جناس الاشتقاق [ وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ].
٣ - الطباق بين [ أخطأتم.. وتعمدت قلوبكم ] وبين [ سوء.. ورحمة ] لأن المراد بالسوء الشر، وبالرحمة الخير.
٤ - التشبيه البليغ [ وأزواجه أمهاتهم ] حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه فصار بليغا، وأصل الكلام وأزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم، والإجلال والتكريم.
٥ - المجاز بالحذف [ أولى ببعض ] أي أولى بميراث بعض.
٦ - ذكر الخاص بعد العام للتشريف [ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ] فقد دخل هؤلاء المذكورون في جملة النبيين، ولكنه خصهم بالذكر تنويها بشأنهم وتشريفا لهم.